بعد ثلاث سنوات على حملة «الريتز كارلتون» في السعودية، عاد ولي العهد، محمد بن سلمان، إلى مسلسل إقصاء المسؤولين والأمراء والنافذين تحت يافطة «مكافحة الفساد». بدأ الأمر قبل أيام، مع أوامر ملكية أطاحت عدداً من المسؤولين، أبرزهم المدير العام لحرس الحدود الفريق عواد بن عيد البلوي. اتُّهم الأخير، وضابطان ومحافظان في منطقة تبوك، بخمسة آلاف تعدٍّ على الأراضي، يبدو لافتاً أنها تعدّيات - وفق رواية السلطات - على أراضي «مشروع البحر الأحمر» الذي يقوده ابن سلمان.
أيام قليلة، وصدر فرمان آخر، عشية صدور كتاب «الدم والنفط»، طال رؤوساً أكبر مما استهدف سابقه. أطاح أمر ملكي، خرج منتصف ليل الإثنين - الثلاثاء، قائد القوات المشتركة الفريق الركن فهد بن تركي بن عبد العزيز آل سعود. وجاء في نص القرار: «بناءً على ما أحيل من سموّ وليّ العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع إلى هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، بشأن ما تمّ رصده من تعاملات مالية مشبوهة في وزارة الدفاع وطلب التحقيق فيها، وما رفعته الهيئة عن وجود فساد مالي في الوزارة، وارتباط ذلك بالفريق الركن فهد بن تركي بن عبد العزيز آل سعود، وسموّ الأمير عبد العزيز بن فهد بن تركي بن عبد العزيز آل سعود، وعدد من الضباط والموظفين المدنيين وآخرين».
تنبع أهمية القرار، ليس فقط من كون الأمير فهد ونجله عضوين في العائلة المالكة، بل كذلك لأن الأوّل يُعدّ أحد أهمّ أركان وزارة الدفاع (يتولاها محمد بن سلمان وينوب عنه أخوه خالد بن سلمان الذي تَوسّع دوره في الوزارة في الآونة الأخيرة). أكثر من ذلك، يعتبر قائد القوات المشتركة أحد القادة العسكريين الرئيسيين لحرب اليمن، سواء من خلال الإشراف على العمليات هناك أم الإشراف على صناعة الميليشيات اليمنية العميلة للسعودية. لكنّ أداء الأمير فهد في المنصب منذ شباط/ فبراير 2018، ولو كان فاشلاً، لا يمكن أن يكون سبباً كافياً للإقالة، خصوصاً مع شمول الإقالة لنجله، وإخراج القرار وفق السيناريو الذي بات دارجاً في بلاط ابن سلمان: مكافحة الفساد. فمخرج تحميل مسؤولية الفشل للغير، ولا سيما أحد الأمراء، عادة ما يرتبط بأمر أساسي: الشكّ في الولاء. وهو ما يدفع إلى السؤال حول سبب اختيار الأمير فهد كضحية للمناورة الجديدة، وإذا ما كان ثمة تخوّف من إقدامه على أيّ تحرّك مناوئ، ولا سيما أن ضابطاً من هذا النوع في أيّ دولة، يقود حرب الدولة في الخارج، لا بد أن يحاط بالتبجيل والتكريم بدلاً من «تركيب الملفات».
ولي العهد، المسكون بالشك على الدوام وعدم الثقة بأحد، لديه أسباب إضافية في هذه المرحلة للقيام بمناورات من هذا النوع أمام الجمهور في الداخل والخارج. فهو يخوض معركته على «الصورة» في الغرب، كما على الأمن، مع ضابط الاستخبارات المنشق، مستشار ولي العهد السابق محمد بن نايف، سعد الجبري، صاحب الملفات الحساسة (الجدير ذكره هنا أن التقارير الغربية بدأت تتوالى عن اعتقال ابن نايف واختفائه مع مخاوف على حياته). كذلك، تعيش المملكة ظروفاً اقتصادية استثنائية بفعل تفشّي «كورونا» وتدهور أسعار النفط، تجعل التذمّر الشعبي من فساد العائلة المالكة يزداد، ما يتطلّب ضحايا إعلامية لتخفيف الحنق لدى الشرائح المتضرّرة. والملاحظ هنا، إلى جانب توقيت الحملة، أنها حرصت على القول إن ابن سلمان لا يتهاون في الحرب على الفساد حتى مع المقرّبين منه، كأمراء آل سعود، بل منَ يعملون معه بشكل مباشر، كوزارة الدفاع أو «مشروع البحر الأحمر».
في هذا الإطار، لعلّ من بين أسباب توقيت الحملة الجديدة هو صدور كتاب مراسلي صحيفة «وول ستريت جورنال»، «الدم والنفط: بحث ابن سلمان الشرس عن قوة عالمية»، وهو يحوي كمّاً هائلاً من فضائح الأمير الشاب (احتفل الذباب الإلكتروني السعودي قبل أيام بيوم ميلاده الـ35)، بينها احتفالاته الباذخة بمناسبة وصوله إلى منصب ولاية العهد. وكلّها فضائح تُهشّم صورته التي يحرص عليها لدى الغرب، كما تحطّم خرافة «مكافحة الفساد» التي يقودها، كلّ ذلك بعد أن انهارت سرديته عن «التجديد والتحوّل» في المملكة، وثَبت فشل رؤيته المستقبلية كما أثبتت مواعيد هذه الرؤية، والتي لم يصدق أيّ منها إلى الآن.