أحمد فؤاد - كاتب عربي مصري | في ظل صراع عالمي على الانفراد بمقعد القوة الأولى اقتصاديًا، والانتقال الهادئ والمتسارع لكفة الميزان من شمال المحيط الأطلسي والولايات المتحدة، إلى جنوب شرق آسيا والصين، تنفرد منطقة البحر الأحمر اقتصاديًا وجغرافيًا بكونها بقعة الالتقاء وعقدة المرور، لتعود المنطقة إلى عصرها الذهبي، قبل اكتشاف "كولومبس" لأميركا، والتي لعبت فيه دور حلقة الوصل بين أوروبا وآسيا، عن طريق العالم العربي، وكانت مصدر الغنى والنفوذ لكثير من الممالك والدول العربية الإسلامية، وأهمها اليمن بالطبع.
13% من تجارة العالم تمر حاليًا بالبحر الأحمر، وتحتاج أوروبا إلى نقل 60% من احتياجاتها من الطاقة عبر البحر الأحمر، وأيضًا ينقل نحو 25% من احتياجات النفط للولايات المتحدة الأميركية، وتعد المنطقة أسرع الأسواق الناشئة نموا في العالم، حيث من المتوقع أن يتضاعف أعداد سكان العشر دول التي تستخدم البحر الأحمر ممرا رئيسيا لها من 620 مليونا إلى 1.3 مليار بحلول عام 2050، ما سيؤدي أيضا إلى تضاعف الناتج المحلي الإقليمي 3 مرات من 1.8 تريليون مليار دولار إلى 6.1 تريليون دولار خلال هذه الفترة، وبالتالي ستنمو التجارة من نحو 880 مليار دولار إلى 4.7 تريليون دولار.
في عالم جديد يتشكل ببطء، وعالم قديم لن يغادر ببساطة ودونما جلبة، تعود موانئ اليمن وبحر العرب إلى صدارة المشهد، وتأتي معها الأطماع، في ظل أن الموقف على الجهة الأخرى من البحر الأحمر –الجانب الإفريقي- قد تلون بأعلام 18 دولة، وامتلأ عن آخره بالقواعد والموانئ، ولم يعد فيه موضعًا لقدم جديد، وتحت ضوء حقيقة ساطعة، هي أن البحر الأحمر طريق الوصل العالمي الجديد، وعبره يمر الطريق إلى البحر المتوسط ثم المحيط الأطلسي، أو إلى بحر العرب ثم المحيط الهندي فالهادئ.
الاقتصاد الذي كان وسيظل مفتاح الصراع العالمي كان بوابة السعودية والإمارات إلى اليمن المنهك، بعد حكم طويل لعلي عبد الله صالح، لم ينجح سوى في تشتيت الشمل وزرع ديناميت التشرذم بين أبناء الوطن الواحد، لضمان أطول فترة ممكنة على كرسي الحكم، وبعده فإن اليمن تخوض حربًا شرسة، لضمان تأمين الموقع والثروة والكيان الوطني، ضد حلف عدواني، يهدف لمسخ كل العوامل السابقة، لصالحه، ولصالح الغرب.
مأساة اليمن المستمرة يمكن تلخيصها وردها إلى صراع دولي، يشمل طرق التجارة العالمية، ومناطق النفوذ، بين عمالقة، وهذا الوضع يترك مساحات أوسع ومجالًا أكبر للحركة، لقوى إقليمية أقل شأنًا وقوة، وكانت القوة الفاعلة الأولى المنتبهة والمستعدة لفرصة الثورة اليمنية ضد حكم علي عبد الله صالح هي الإمارات، الساعية إلى دور وإلى نفوذ، في زمن متقلب، سُمح فيه لدولة صغيرة عديمة الجذور وحديثة النشأة بلعب أدوار تاريخية كبرى.
وللوجود الإماراتي في البحار والموانئ العالمية قصة طويلة، بدأت مع مطلع الألفية، بالتحديد منذ إنشاء يد طولى لها، وهي شركة موانئ دبي العالمية، والتي سيطرت بسرعة على 78 محطة ملاحية في 40 دولة، وتأمل أن تصبح أكبر مشغل موانئ في العالم.
لكن الشركة التي ولدت عملاقة تلقت ضربات متتالية، تهدد وجودها واستمرار أعمالها، وأولها عدم السماح لها بتشغيل 6 موانئ بالولايات المتحدة، فولت وجهها شطر مناطق جديدة كان على رأسها البحر الأحمر.
واصطدم التوجه الإماراتي بسرعة مع نظم حكم فهمت وقدرت الأهداف الإماراتية في السيطرة والتدخل، فأنهت جيبوتي والصومال –وهما من أفقر الدول الإفريقية- عقود موانئ دبي، في أكبر ضربة موجهة للطموح الإماراتي الخارجي، بعد أن اتضح بجلاء أن الوجود الإماراتي هو احتلال ناعم جديد، لا يفرق في مآله أو نتائجه عن الاحتلال القديم بالمدفع والبندقية.
ومع الخروج المهين من إفريقيا، أدرك النظام الإماراتي أنه ولا بد من قوة إذا أراد التمدد والبقاء، مثله مثل أي قوة إقليمية أو عالمية، ومع مشهد الربيع العربي في بداية العقد الحالي، وجد ضالته في اليمن، ليدفع محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، بحليفه السعودي المتهور محمد بن سلمان إلى الحرب، ليضمنا وجودًا عسكريًا، يحمي ويدافع عن وجود إماراتي.
والسياسة الإمارات المتبعة في الإقليم هي تدمير المنافسين، بإثارة الطمع وتوزيع العطايا على المسؤولين، فإذا جاءت لحظة الحساب، اكتشف المنافسون أن أحلام النمو والتوسع والأرباح ما هي إلا سراب، رأته عيونهم في لهفة، واتجهت إليه خطاهم في شوق، فإذا هو يتبخر في لحظة، ولا يبقى له أي أثر، وهو عين ما فعلته وتفعله في ميناء عدن، حين فازت بعقد إدارة عام 2008، وأدارت الميناء إلى الخراب العاجل، وبدلًا من أن تزيد سعة الميناء من الحاويات إلى الضعف، كما كان مفترضًا، انخفض تحت إدارة الشركة الإماراتية إلى أقل من النصف، فضلًا عن ذلك، فقد الشركة تسعيرة المرور في الميناء، بدلًا من خفضها، ما أدى إلى نفور السفن من المرور فيه، والرابح الوحيد كان ميناء جبل علي الإماراتي.
وفي جزيرة سقطري اليمنية، أكبر الجزر العربية مساحة، وأهمها موقعًا على الإطلاق، بدأت اليمن منذ انطلاق العمليات العسكرية للحلف العربي دخولها إلى الجزيرة، تحت لافتة إرسال مساعدات إنسانية لأهلها، بالتوازي مع تأسيس وجود جديد لها –في حماية قوات التحالف- بالموانئ اليمنية، والسيطرة على طرق التجارة، وصولًا لحصار ميناء الحديدة، وما سببته من مأساة إنسانية في شمال اليمن.
ومع المساعدات الإماراتية المزعومة لسكان الجزيرة، 130 ألف نسمة تقريبًا، والتي تتخذ من مؤسسة خليفة للأعمال الإنسانية غطاء لها، بدأت محاولات السيطرة تتخذ وضعًا جديدًا، تحت زعم دعم الشرعية، رغم أن الجزيرة لم تدخل على الإطلاق في نطاق العمليات العسكرية، ودعمت بيئتها الفريدة من أهمية الحفاظ عليها، وصنفتها "اليونسكو" في 2008 ضمن قائمة التراث العالمي الطبيعي، بسبب تنوعها البيولوجي الكبير، ويوجد بها مئات الأنواع النادرة من النباتات والطيور والحيوانات، مما يجعلها واحدة من الأماكن الفريدة حول العالم.
وتسير الخطة الإماراتية في سقطري على المنهج الصهيوني في التعامل مع الفلسطينيين، بالوجود العسكري الفج، ثم وجود اقتصادي يجذب أبناء الجزيرة للعمل والمصالح، ودفع رواتب، وإدعاء وجود تاريخ مشترك بين الجزيرة وبين عائلات الإمارات، وأخيرًا التجنيس، والهدف الوحيد هو جعل عودة الدولة اليمنية إلى الجزيرة من المستحيلات.
وكما هو مطلوب من الكيان الصهيوني، تقوم الإمارات بنفس الدور، وإن كانت الأساليب مختلفة، فجزيرى سقطري بالذات كانت هدف كل إمبراطورية مرت على المنطقة حديثًا، منذ سيادة البرتغال على البحار، حيث اتخذها ألفونسو دي ألبوكيرك، في القرن السادس عشر مقرًا للأسطول البرتغالي، واحتلتها فيما بعد بريطانيا لضمان سيطرتها على ساحل عدن، وفي القرن الماضي، دخلها الاتحاد السوفيتي بقاعدة عسكرية، وهي الآن هدف أكيد للولايات المتحدة.
الإمارات في حركتها العامة، داخل الجزيرة العربية والشرق الأوسط، تلعب دور حصان طروادة الأميركي، وبدلًا من السيطرة العسكرية المباشرة، المسببة للقلاقل والباعثة للمقاومة، تتبع الأساليب الصهيونية في التعامل مع السكان، والتلاعب بالديموغرافيا البشرية، كوكيل للأميركي أولًا، ولتحقيق مصالح التمدد والبقاء ثانيًا، وهي كما تراهن على المصالح المادية للسكان، فإن رهان شعوب المنقطة يبقى على المقاومة، وفي القلب منها جماعة أنصار الله، والدولة اليمنية، القادرة على هزيمة العدوان في الأطراف، كما صمدت وحمت القلب منه.
(راصد اليمن | خاص)