كل التعتيم الإعلامي الذي تنتهجه السعودية على الأحداث الداخلية، لم يعُد مجدياً في عصر مواقع التواصل الإجتماعي، التي باتت توثِّق بالكلمة والصورة مُجريات الأمور، وبات كل مواطن سعودي إعلامياً متى نَقَل حدثاً ما، في مغامرةٍ تُلزِم البعض استخدام إسمٍ مُستعار، لكن قضية الأمراء المُحتجزين تمّ “تدويلها” دون الحاجة الى المزيد من الإعلام، لأن بعض هؤلاء تجرأ ودافع عن نفسه وعن ثروته كالأمير الوليد بن طلال بمواجهة ولي العهد محمد بن سلمان، وذهب البعض الى ما هو أبعد، كما فعل رجل الأعمال السعودي / الأميركي أحمد العسراوي، الذي أقام دعوى أمام المحكمة الإتحادية في نيويورك متهماً محمد بن سلمان باحتجازه وضربه وتعذيبه وسلبه أكثر من عشرة مليارات دولار، وهي كناية عن أبراج وعقارات يملكها في السعودية.
تقديم العسراوي هذه الدعوى أمام محكمة نيويورك بالذات، استثار المئات من أهالي ضحايا 11 سبتمبر، الذين سبق ورفعوا دعاوى لدى المحكمة نفسها بحق الحكومة السعودية، بتهمة التورُّط في قضية الإعتداء على برجيّ نيويورك، وطالبوا الرئيس ترامب والحكومة الأميركية عدم التدخُّل بأعمال القضاء والتأثير على الأحكام، وفصلها عن العلاقة الوطيدة بين ترامب والنظام السعودي، والتي انتجت صفقة القرن بالنسبة لأميركا وحصد منها ترامب 450 مليار دولار.
المُلفت أن الإتهامات التي وجَّهها النظام السعودي الى الأمراء، لا تقتصر فقط على الإختلاس من المال العام والتورُّط في صفقات مشبوهة والإثراء غير المشروع الذي اتُّهم به أمثال الوليد بن طلال، بل تضمَّنت الإتهامات مسائل ترتبط بغسل الأموال، مما أعاد المُغرِّدين السعوديين الى العام 2016 وفضيحة “وثائق بنما” للتهرُّب الضريبي والتي كان الملك سلمان بن عبد العزيز من أبرز المتورِّطين فيها من بين حكام الخليج.
والشارع السعودي إستعاد فضيحة “وثائق بنما” الى واجهة التداولات، لأن القضية لا تقتصر على التهرُّب الضريبي، بل في الكشف عن عمليات فساد وغسيل أموال تقوم بها النخب السياسية والاقتصادية العربية، والتي قد تكون أسوأ الجرائم في العالم، وكما في السعودية كذلك في بعض الدول الخليجية الأخرى، يُصرّ عامة الناس على السؤال عن السبب الذي يدفع حكاماً لديهم سلطة على المال العام إلى إخفاء أموالهم في ملاذات ضريبية، طالما أنهم يسيطرون بشكل مطلق على دُولهم التي لا تفرض ضرائب تُذكر لا بل تعفي من دفع الضرائب.
وتبيَّن لدى المُحللين الماليين، أن هناك الكثير من الأسباب التي تدفع هؤلاء الحكام والأثرياء العرب إلى الإنجذاب نحو ملاذات ضريبية مثل “بنما”، وأن الأمر لا يقتصر على التهرب من الضرائب، بل من أجل وضع أموالهم واستثمارها هناك في حسابات وشركات بأسماء مستعارة تخفي أصحابها الحقيقيين، بعيدا عن أعين الحساد والمنافسين والقنوات الحكومية والبيروقراطية الرسمية، كما أن وضع الأموال هناك، يسمح لهم بغسيل أموال غير مشروعة مصدرها سرقة المال العام وعمولات صفقات شراء السلاح وتهريب النفط والغاز، وبعد عملية الغسيل هذه يمكن لهم استثمار هذه الأموال في شراء العقارات واليخوت والمجوهرات وتمويل صفقات سلاح سرية وتقديم الرشاوى لمن يُسهِّلون لهم الصفقات.
وبانتهاء الجزء الأكبر من حلقات احتجاز الأمراء، يبدو أن الأمير الوليد بن طلال الذي يعود له الفضل في “تدويل” القضية ونشر غسيل بن سلمان على سطوح بلدان العالم، قد قرر الدخول في هدنة مؤقتة كي لا يُعطي لمحمد بن سلمان ذريعة للقبض على أسهم “المملكة القابضة” التي يمتلك الوليد 90% منها والتي تُشكل غالبية ثروته، لكن الأمراء من آل سعود غير المتورطين في تُهمة الفساد، يتَّهمون بن سلمان ووالده بارتكاب فظاعات من خلال السيطرة على المقدرات المالية الهائلة للمملكة إضافة الى السيطرة على أجهزة الأمن والحرس الملكي، ولعل المتحدِّرين من نسل الملكين الراحلين فهد وعبدالله بن عبد العزيز هم الأكثر حماسة لِلَجم بن سلمان وتصعيد المعارضة لمنع وصوله الى العرش، وهيئة البيعة التي توافق بالمبدأ على تعيين الملك محسوبة بغالبيتها على الملك السابق عبدالله، وتأجيل مبايعة محمد بن سلمان الذي يُعتبر بنظر الخصوم أنه اشترى العرش من دونالد ترامب، دليل أن هيئة البيعة لا تُبارك وصوله وتُماطل بذلك منذ نوفمبر / تشرين الثاني 2017، لأسباب ترتبط بالنزاعات داخل الأجنحة العائلية، وترتبط أكثر بالخوف من تهوُّر بن سلمان في سياساته الخارجية، والتي لم تُبقِ للمملكة دولة صديقة في الخليج سوى الإمارات العربية المتحدة، علماً بأن هذه الصداقة يبدو أنها آنية وغير موثوق بديمومتها مع بدء تضارب المصالح على أرض جنوب اليمن…
(أمين أبوراشد - موقع المنار)