أحمد فؤاد - صحافي مصري | "بريطانيا ليست لها صداقات دائمة أو عداوات دائمة، ولكن بريطانيا لها مصالح دائمة"، أحد أبرز مقولات السياسيين عبر العصور، للسياسي البريطاني، ورئيس وزرائها الأسبق بنجامين دزرائيلي، يُلخص بها وفيها سياسة بريطانيا وقت أن كانت الدولة العظمى السيدة للكوكب كله، وإمبراطوريتها لا تغرب عنها الشمس.
تمارس الدول السياسة لجذب الحلفاء، ولترجمة المصالح إلى تفاهمات، وتتجنب قدر الإمكان خلق الأعداء، خصوصًا لو كانت العداوة غير مبررة، ومع جارٍ يتمتع بثقل تاريخي وسكاني يتجاوزان دولتك بمراحل.
الإمارات العربية المتحدة كانت، وحتى وقت قريب، تمثل الوجه الناعم للسياسة الخليجية، المرتبطة وجوديا واستمراريًا بمصالح الغرب والمرتهنة بالكامل لإرادة الغرب في بقائها بشكلها الحالي، وبالتالي تخدم مصالحه بكل شكل ممكن، سواء بخشونة مثل السعودية، أو عبر نعيق الجزيرة القطرية، أو بنعومة مثل الإمارات سابقًا.
وعبر تحالف غير مسبوق بين محمد بن زايد ومحمد بن سلمان –إلى حد اُعتبر بن زايد هو واضع خطة تصعيد الأخير وليًا للعهد- بدأت الإمارات في الفصل الدامي، لدولة صغير راغبة في السيطرة والتمدد الإقليمي، اعتمادًا على فوائض مالية في الخزانة الغنية، وعلى صورة مسبقة لدولة "فائقة التقدم"، وراغبة في نقل خبراتها للغير.
البداية الإماراتية كانت متشابهة للغاية مع سياسة تركيا، مطلع الألفية.. "صفر مشاكل" والسعي لتقديم اقتصاد مثال للدول المحيطة، دول الخليج وإيران كانت المستهدفة بالتصعيد والتلميع و"البروزة" للاقتصاد الإماراتي المبني، كما تركيا، على لا شيء حقيقي، فالدولة الخليجية الصغيرة مساحة وسكانًا، توزع من فوائض البترول على مواطنيها وعلى الوافدين، وتبني مدنًا وخدمات "ذكية" ومتطورة للغاية، بلا صناعة أو توطين للتكنولوجيا، وتحاول جاهدة أن تتحول إلى مركز مالي عالمي، متجاوزة عدم وجود اقتصاد حقيقي يسند تطلعاتها.
وإذا كان النموذج التركي يستند إلى موقع وتاريخ مع شعوب المنطقة -وإن كان تاريخًا معمدًا بالدم- إضافة إلى وزن سكاني، ولغة تعكس اختلاف ثقافي، يجد مساحات للحوار والتقارب، وأحيانًا يسبب التضاد والصراع، فإن الإمارات لا تمتلك من الميزات الحاضرة إلا التدفق البترودولاري، الذي ساعد على بناء نموذج مشوق، يقترب من أفلام الكارتون، أو في أفضل مشاهده، مدينة افتراضية تقترب من المثالية.
الأذرع الناعمة، التي اعتمدها التخطيط الأميركي لمستقبل المنطقة، تحولت مع الوقت، وبفعل أزمة تضرب بنيان النظام الغربي منذ 2008 -أزمة مالية تدحرجت إلى كابوس اقتصادي- لمخالب قاتلة، تتصرف من منطلق القوة والقدرة، وكأنها تملك بالأساس زمام أمرها.
مع سلطنة عمان كان الرهان الإماراتي يتصاعد إلى حد إثارة الرعب للدولة الخليجية البعيدة عن المشاكل، والتي رسم لها حاكمها –السلطان قابوس بن سعيد- مسارًا لمخاصمة الخلافات العربية من جذرها، ورفض دومًا الانخراط في أي تجمع عربي ضد دولة عربية أخرى.
أرعبت التحركات الإماراتية لسلخ اليمن الجنوبي من جسد الدولة اليمنية عمان، بأكثر من أية دولة أخرى، بسبب معاناة السلطنة سابقًا من ثورة "ظفار"، التي أمتدت زهاء 10 سنوات، وسيطرت على عدد من المدن العمانية، وهددت الحكم السلطاني، بدعم من جنوب اليمن، حديث العهد بالاستقلال وقتها، وبدفع من المبادئ الاشتراكية والقومية المسيطرة على العالم العربي في ستينات وسبعينيات القرن الماضي.
والناظر لخريطة جنوب شبه الجزيرة العربية يتأكد فورًا أن جنوب اليمن وعمان أراض متصلة، وتبلغ الحدود المشتركة بينهما قرابة 288 كيلو مترًا، وتعد محافظتي المهرة وحضرموت قمة تمثيل التشابك العماني-اليمني، بفعل قرابات ونسب مشترك، يمتد في قبائل المحافظتين، ويعمق من التأثير المتبادل بينهما.
سياسة السلطنة في الحرب العربية الظالمة على اليمن كانت –ولا تزال- تمنع الخنق والعصر السعودي، باحتلال المنافذ كافة أمام تواصل الدولة اليمنية والحوثيين مع العالم الخارجي، وكانت المعبر للوفود الحوثية المشاركة في الاجتماعات الدولية، وفتحت مستشفياتها ووحداتها الصحية أمام ضحايا القصف الجنوني السعودي على الشعب اليمني.
وإذا كان اليمن يكسب بموقف عمان، المناوئ لدول العدوان، فالموقف العماني أيضًا يراكم المكاسب لمصلحة السلطنة، الآن ومستقبلًا، وخصوصًا مع حالة "الأخوة الأعداء" التي تمارسها الإمارات ضد سلطنة عمان منذ سنوات.
الجانب الاقتصادي رقم لا يمكن إسقاطه، من معادلة العلاقات العمانية-الخليجية، وبالأخص التنافس مع الإمارات في مجالات التجارة والترانزيت، فحركة الملاحة والشحن في ميناء "صحار" العماني، تشهد رواجًا غير مسبوق، بسبب الحصار المفروض على الموانئ البحرية القطرية، وارتفع حجم الشحنات في الميناء العماني بنسبة 30% تقريبا خلال الأشهر القليلة الماضية عن الأعوام السابقة.
وحين رغبت الصين في مدّ طريق الحرير، طبقًا لرؤية خلق طرق جديدة للتجارة، ومع تزايد التهديدات من الجيش اليمني لقواعد دول العدوان، فإن الربح العماني تصاعد، تعتبر الصين سلطنة عمان أحد أهم شركائها للاستثمار في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة بعد توقيع الصين اتفاقية مع السلطنة لإنشاء منطقة صناعية في منطقة "الدقم"، جنوبي العاصمة مسقط، بأكثر من 10.7 مليارات دولار، كواحد من أضخم الاستثمارات الصينية خارجيًا في مجال البنية التحتية على الإطلاق.
الإمارات تخسر مصالحها ونفوذها، وتضيع أموالها هباء، في ظل حربها الظالمة على الشعب اليمني، هذه حقيقة واقعة تثبتها التطورات المتتالية، في عالم يبحث عن الهدوء ورأس مال لن يغامر في فضاءات الدمار والخراب، والصواريخ اليمنية والطائرات المسيرة أثبتت قدرة فائقة على خوض حرب "تكسير العظام" مع الأنظمة الخليجية العدوانية، والعبور للمستقبل يبقى رهنًا لمن يجيد قراءة واقعه، وتصفية أزماته لا زيادتها.
(خاص | راصد اليمن)