خاص | القذافي وبن سلمان.. مشهد النهاية

مصطفى شفيع - كاتب لبيبي | في أكتوبر من العام 2011، طارد الثوار الليبيون، الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، خلال هروبه في الصحراء، مع عدد من حرسه الشخصي، وأمسكوا به في أحد "مواسير" الصرف الصحي، وفتكوا به في مشهد نقلته الكاميرات إلى العالم أجمع، ليكتب فصل النهاية لليبيا الموحدة، ولواحد من أكثر الزعماء العرب إثارة للجدل.
الثورة الليبية التي بدأت برياح التغيير القادمة من مصر وتونس، جارتي ليبيا الفقيرتين، ما لبثت أن وجدت من الناتو نصيرًا وحاميًا، ومزقت الغارات الجوية الجيش الليبي، ومكنت الثوار من الظفر برأس الرجل الذي حكم البلد بقبضة حديدية طوال 40 عامًا، منذ ثورة أيلول 1969.
بين تاريخ البداية والنهاية يتقاطع المشهد الليبي مع المشهد الحالي بالمملكة، شاب على رأس السلطة يريد، بدفع رؤيته الشخصية، نقل البلد موحدًا إلى عصر جديد، امتلك القذافي الرؤية، وصاغ نظريته الخاصة في كتابه الأخضر الشهير، معززًا بفوائض بترول هائلة، وأسعار بدأت الارتفاع بعد 4 سنوات فقط له في السلطة، بدا كل شيء ممكنًا، وتوهم البعض أن "القذافي" قادر على صنع "الدولة العربية المثال".
البلد التي ورثها "القذافي" مملكة، حوّلها جمهورية، ثم جماهيرية عظمى، كما تقول الأوراق الرسمية، وبدأ عشرية هائلة، امتازت بتأكيد الاستقلال الوطني، وتبني منهج معاد للغرب، والغريب أيضًا أنه كان بدفع من جيرانه، في مصر وتونس والجزائر، المستقلة حديثًا، وعزز سيطرته على الداخل الليبي، بطموح متزايد نحو دور يتجاوز الحدود الجغرافية.
كان أول فعل للقذافي هو إغلاق القواعد الغربية في بلاده، وخصوصًا "هويلس الجوية"، والتي حكمتها معاهدة بين الملك إدريس السنوسي والأميركيين في 1951، نصت على "حق السيطرة الكاملة على الأجواء والمياه الليبية وحرية الوصول والحركة للقوات الأميركية في جميع أجزاء ليبيا" و"تأجير القاعدة الجوية لمدة 20 عامًا" و"السماح بتواجد قوات حلف الأطلسي في القاعدة".
رغم أن ليبيا كانت تشمل عدد آخر من القواعد، بريطانية وأميركية، إلا أن هويلس أو ويلس كانت أكبر قاعدة جوية أميركية بالمتوسط، وجرت فيها "أعمال مساندة" للضربة الصهيونية في 1967، وتغير اسم القاعدة في 1995 إلى قاعدة معيتيقة الجوية، نسبة لطفلة ليبية قتلت في حادث سقوط طائرة أميركية، ولم يحاسب أحد.
ظل القذافي طوال 4 عقود يعلن ويعلن ويعلن عن مشاريع هائلة، النهر الليبي العظيم، مشاريع التحديث والتمدين لليبيا، ومنذ وصوله للسلطة، عن طريق انقلاب عسكري "أبيض"، لم يجد ثمة مقاومة من الملك السابق، سعى بالقوة لإعادة تشكيل المجتمع الليبي، وفقًا لمبادئه الثورية.
شخصية القذافي انعسكت، بطول مدة المكوث في السلطة، على المؤسسات الليبية كافة، فظهرت بعد رحيله كأنها أعجاز نخل خاوية، فتبددت تمامًا كل آثارها، وظهرت كدولة بلا دولة، فالرجل كان لا يتمتع بأي قدر من ضبط النفس، مندفع لدرجة التهور، يعمل بمقتضى قاعدة " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى"، وباتت قناعاته الشخصية، وربما حتى نزواته، أوامر عليا لا تقبل الجدل، ودفعت ليبيا في مقابلها عزلة مستمرة عن العالم، لمدة تزيد عن العقدين، أي نصف فترة حكمه.
في تقرير لوزارة الخارجية الأميركية، قالت إن ليبيا-القذافي كانت تصرف بسخاء على أنظمة معادية للغرب، أو على أقل تقدير موالية للقذافي، خاصة في أميركا اللاتينية، واعتمدت مبدأ شراء الولاء بالسلاح والدعم المالي، أما في إفريقيا، فقد سار على نهج تدخل أكثر خشونة، عن طريق الدعم المباشر للأطراف المتحاربة، كما في زائير (الكونغو الديموقراطية)، أو التدخل العسكري المباشر، كما في تشاد عدة مرات، بين عامي 1981 و1983.
استعان "القذافي" بالفوائض المالية الهائلة للنفط في محاولة كتابة تاريخ جديد لليبيا، بيد أنه نسى كتابة الحاضر، فانعدمت مناعة المجتمع الليبي، أمام التغيرات الهائلة التي شهدتها المنطقة إبان الربيع العربي، وخرجت ليبيا من التجربة مفتتة، ولا يتوقع أفضل المحللين أي مستقبل موحد للدولة، في المدى المنظور، إلا بتوفر عنصر عربي، قادر وراغب، ويتمتع بدعم الشعب الليبي، لانتشال البلد من جحيم الفوضى والإرهاب.
قصة صعود محمد بن سلمان، نجل الملك، إلى سد الحكم، ليصبح بين عشية وضحاها الآمر الناهي في أمور أكبر الدول العربية وأغناها، مثيرة، تصلح كقصة فيلم هوليوودي، لكنها أبدًا لا تصلح لرسم صورة ثائر يجلس على عرش أل سعود، فالشاب الذي ولد في فمه ملعقة من ذهب، يخاصم القذافي في توجهه الرئيس، وهو أنه مدعوم من الولايات المتحدة، لكنه يبقى مصلحًا من القصر، لا من الشارع.
بن سلمان يمضي في طريق الإصلاح، عقب إعلان رؤية المملكة 2030، مدعومًا بفوائض مالية ضخمة، وطموح أضخم للعب دور في مستقبل الشرق الأوسط، مستندًا على تحالفات مع الدول الأقوى بالمنطقة، الكيان الصهيوني والإمارات ومصر، لكنه حلف ولد مشوهًا، ولا يتمتع في الدول العربية بأي قدر من الشعبية، ولا تجرؤ على الإعلان عنه.
وكما مارس القذافي عدوانًا فاشلًا على تشاد، وضم ثلث جارته الجنوبية، يخوض بن سلمان عدوانًا مستمرًا على الجارة الجنوبية اليمن، ولا يبدو أن المصائر مختلفة كثيرًا في هذه النقطة، إذ أن أكداس السلاح والتحالف العريض لم يحققا أي تقدم على الأرض، وباتت الحرب استنزافًا لا يطاق للخزانة السعودية، التي تعاني من صفقات ترمب.
باختصار.. فإن إصلاح بن سلمان يتشابه مع ثورة القذافي، فكر رجل واحد، يتحول بقدرة السلطة –أو التسلط- إلى رؤية، مستندة لوجود المال، لكنها تبقى في إطار مشروعات شخصية، لا تسير في ركابها الشعوب، إلا بقوة البطش، ما أن يرتفع الأيدي الممسكة بالسيف عن رقابهم إلا وانتفضوا يحطمونها، ويلقون بها خلف أصحابها إلى غياهب النسيان.

(راصد اليمن - خاص)
 

آخر الأخبار