عدوان على اليمن سيكون وبالا على السعودية (4/4)

بطبيعة الحال فان ايران وروسيا ليستا جمعية خيرية او جماعة صوفية طهرانية. بل ان كلًّا منهما هي دولة كبرى، اقليميا ودوليا، ولكل منهما مصالحها القومية واستراتيجيتها وعقيدتها الدينية والسياسية. والنهج الحكيم والنبيل الذي تنتهجه قيادات هاتين الدولتين الكبيرتين انما ينطلق بالضبط من مصالحهما واستراتيجيتهما وعقائدهما. ونلخص ذلك فيما يلي:

ايران

ـ1ـ ان قيادة الجمهورية الاسلامية الايرانية تدين بالمذهب الشيعي الاثني عشري، ولكنها تؤمن بشدة بمبدأ الوحدة الاسلامية، وهي تخضع كل سياستها الداخلية والخارجية لتطبيق هذا المبدأ.

ـ2ـ ان مشاركة المتطوعين الشعبيين الايرانيين في القتال الى جانب الشعب العراقي والشعب السوري ضد المنظمات الارهابية، انما ينطلق من مبادئ تجنب الفتنة المذهبية السنية ـ الشيعية والفتنة الدينية الاسلامية ـ المسيحية، ومجابهة النزعة التسلطية الامبريالية واليهودية والعثمانية بواسطة المنظمات الارهابية.

ـ3ـ ان مصلحة ايران تلتقي مع مصلحة السعودية، على صعيد التفاهم والتعاون، وليس المزاحمة العدائية الضارة للطرفين، في قطاع استخراج وتصدير الطاقة والاستخدام الرشيد لمضيقي هرمز وباب المندب.

روسيا

ـ4ـ ان الدولة الروسية برزت تاريخيا بوصفها "دولة ارثوذكسية" (مسيحية شرقية)، والاغلبية الساحقة للشعب الروسي الان هي ارثوذكسية. ما يعطي الارثوذكسية مكانة خاصة في الدولة الروسية بكل المعايير "الديمقراطية". والعقيدة الارثوذكسية تعتبر الدين الاسلامي مكملا للمسيحية الشرقية، وليس معاديا للمسيحية كما فعلت بعض المذاهب المسيحية الغربية التي وقفت تاريخيا خلف الحملات الصليبية.
ويتميز الروس الارثوذكس بالاحترام الشديد للارض العربية والشعب العربي (= الفلسطيني، السوري، الفينيقي، السرياني، الاشوري، الكنعاني، الارامي) الذي اعطى العالم الديانة المسيحية الاصلية (اي المسيحية الشرقية التي ينتمي اليها السيد المسيح ذاته). ومعلوم تاريخيا ان الروس الارثوذكس (ككل الارثوذكس) لم يشاركوا في الحملات الصليبية، بل حاربوا ضد "الصليبيين الشماليين" (السويديين والتوتونيين = الجرمان والبولونيين وغيرهم) وانتصروا عليهم في اواسط القرن الثالث عشر. مما اسهم في اضعاف وهزيمة الصليبيين في القسطنطينية وفي الشرق العربي في القرن الثالث عشر.  

ـ5ـ تنطلق القيادة وغالبية الشعب الروسي من قناعة بأن الاتحاد السوفياتي السابق انما كان يمثل اتحادا بين المسيحيين السلافيين الارثوذكس وبين الشعوب الاسلامية في اسيا الوسطى. والروس اليوم منتشرون بكثافة في كافة الجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة، وبالمقابل يوجد في روسيا الاتحادية حوالى 25 مليون مسلم روسي. والقيادة الروسية تقول بمبدأ ان روسيا هي دولة مندمجة ارثوذكسية ـ اسلامية.

ـ6ـ تنطلق السياسة الداخلية والخارجية والاستراتيجية الروسية بأسرها من نظرية "الاوراسية" التي تؤمن بها القيادة الروسية. وتنبني هذه النظرية على اسس رئيسية من اهمها:

ـ اقامة علاقات وثيقة بين روسيا والعالم الاسلامي بأسره.

ـ تأخذ القيادة الروسية بالاعتبار الدور المميز الذي تضطلع به كل من السعودية ومصر وايران وتركيا في العالم العربي والاسلامي. وترى ان من مصلحتها التقارب مع هذه الدول، من جهة، والعمل لازالة الخلافات والتقريب فيما بين هذه الدول من موقع الصديق للجميع، من جهة ثانية. وفيما يلي امثلة عملية عن تطبيق روسيا لهذه القناعات الاساسية:

أ ـ التعاون الوثيق، السياسي والاقتصادي والعلمي والعسكري، الذي يقوم بين روسيا وبين الجمهورية الاسلامية الايرانية.

ب ـ عملية ضبط النفس المثيرة للدهشة لدى قيام القيادة التركية ومخابراتها وعملائها بالمشاركة في اسقاط الطائرة المدنية الروسية التي كانت تنقل سائحين روس فوق سيناء، ثم اسقاط الطائرة المقاتلة الروسية التي كانت تطارد المنظمات الارهابية داخل الحدود السورية وقيام الاردوغانيين بقتل الطيار بمنتهى الخسة والنذالة بعد ان هبط سالما بالمظلة. واخيرا عملية الاغتيال المشبوهة التي تعرض لها السفير الروسي في انقرة. ومع كل ذلك لم تتخل روسيا عن الموافقة على مد انبوب الغاز القاري الى اوروبا الجنوبية والشرقية، عبر الاراضي التركية، بالرغم من الاستفزازات التركية الغادرة ضدها.

ج ـ وخلال اللقاءات التي تمت في السنة المنصرمة مع الامير السعودي محمد بن سلمان، اكدت القيادة الروسية الاستعداد لبيع الاسلحة الدفاعية المتطورة للجيش السعودي، ولبناء 16 محطة نووية لانتاج الكهرباء الرخيصة في السعودية، كما ان روسيا التي تمتلك 25% من المياه العذبة في الكوكب الارضي على استعداد لتوريد المياه للسعودية بواسطة الصهاريج البحرية العملاقة او بواسطة مد انبوب قاري لنقل المياه من الشرق الروسي نحو شبه الجزيرة العربية، وكذلك بيع الاتربة للسعودية لتتريب قطاعات صحراوية واسعة وتخضيرها وتحويلها الى اراض زراعية مأهولة، ومساعدة السعودية على استهطال الامطار الاصطناعية لري الاراضي.

د ـ بالرغم من حادثة اسقاط الطائرة المدنية في سيناء والتي كانت تقل سائحين عائدين من مصر، فإن روسيا تعمل بكل الوسائل لتطوير العلاقات مع مصر في كل المجالات الممكنة، والتي تساعد مصر على تقوية دفاعها وتدعيم استقلالها ومحاربة الارهاب والتغلب على ازمتها الاقتصادية.  

للصبر حدود

ولكن على الرغم من كل معطيات سياسة اليد الممدودة نحو السعودية من قبل ايران وروسيا، فإذا استمر العدوان الوحشي السعودي، والاستفزازات الاعلامية على "طريقة عادل الجبير"، ضد الشعب اليمني والقبائل اليمنية التي لا تنام على ضيم، فإن لكل شيء حدودا، حتى "صبر ايوب". وربما تفلت الامور حتى من ايدي القيادات الحكيمة في اليمن وايران وروسيا على السواء، وتندفع بعض القبائل والجماعات اليمنية للثأر والانتقام داخل الاراضي السعودية وفي مضيق باب المندب وبحر العرب والبحر الاحمر، مهما كان الثمن.  

واذا حدث ذلك لا سمح الله، وتحول العدوان السعودي على اليمن، الى حرب يمنية ـ سعودية فوق الارض السعودية ذاتها، فمن يضمن ان لا يتقاطر مئات الاف بل وملايين المقاتلين الشعبيين، من مختلف الاقطار العربية والاسلامية للانضمام الى صفوف القوات الشعبية اليمنية والقتال ضد الغزاة السعوديين وحلفائهم الخليجيين. فهل سيستطيع الامراء والشيوخ السعوديون والخليجيون المترفون ان يصمدوا في القتال، مثلما يصمد الان الشعب اليمني الفقير والمظلوم؟

لا شك ان السعودية وحلفاءها يستطيعون تجييش عشرات الاف المقاتلين "السنة" من كل انحاء العالم، كما جرى في ليبيا والعراق وسوريا. ومراكز القوى المتطرفة المشبعة بالحقد المذهبي الاعمى ستراهن على قيام فتنة كبرى سنية ـ شيعية. ولكن التجربة المريرة الاخيرة في سوريا ولبنان، ولا سيما خلال معركة حلب، وكذلك تجربة العراق وليبيا ومصر وغيرها تثبت ان الغالبية الساحقة من الجماهير الاسلامية السنية ذاتها اكدت بالتجربة الملموسة انها لن تنجر الى الفتنة، وان العصابات الارهابية الاسلاموية مهما كان فيها من المضللين، فهي ستبقى أقلية معزولة عن غالبية الجماهير العربية والاسلامية السنية، وهي في نهاية المطاف ستهزم شر هزيمة.

النصر للشعوب

واذا أخذ الصراع هذا المنحى المأسوي، وفي مقابل الدعم الاميركي ـ الناتوي ـ الاسرائيلي و(ربما!!!) التركي والباكستاني، فإن شعوب ايران والعراق، وروسيا والصين، وغيرها من الدول التي لا تسير كالتابع خلف اميركا والناتو، لن تقف مكتوفة الايدي، وستدعم بكل قوة الشعب اليمني ومناصريه. وقد اثبتت تجربة اوكرانيا وجورجيا وافغانستان والعراق وليبيا ومصر ولبنان واخيرا سوريا، ان كل دولة وكل منظمة تسير مع اميركا والكتلة الغربية ستخسر وتهزم شر هزيمة. وحتى اسرائيل التي كانت تتنمر على جميع الجيوش العربية، ولى زمن غطرستها، واصبح يوم الحساب العسير معها اقرب مما يتصور قادتها الاغبياء وجميع "حكماء صهيون".

واذا استمرت السعودية في العدوان على الشعب اليمني، واستمرت اسرائيل في غطرستها، فإن مصيرهما لن يكون افضل من مصير العصابات الإرهابية في حلب (والموصل!).


طوق النجاة الاخير

لا شيء ولا أحد بعد الآن يمكن ان يحمي اسرائيل والسعودية من الهزيمة الساحقة سوى: الوساطة الروسية.

فبالنسبة لاسرائيل يوجد فيها اكثر من مليون مواطن روسي يهودي (وغير يهودي!). وروسيا لا تريد استرجاعهم كمجموعة (حتى لا تترسخ لديهم الفكرة القومية الصهيونية) وان كانت لا تمانع في عودة من يريد العودة منهم فرديا كمواطنين روس، وفي الوقت ذاته لا تريد ان تحل بهم مأساة انسانية، وهي التي سبق وحمتهم وحمت آباءهم واجدادهم من الفناء على ايدي الهتلريين. وهذا هو الاساس الذي يدفع روسيا للتوسط لايجاد حل فلسطيني ـ عربي، انساني، لوجود اليهود على الارض الفلسطينية والعربية، ومنحهم الجنسية الفلسطينية والعربية كما جرى للمستوطنين الفرنسيين في الجزائر بعد انتصار الثورة.

اما بالنسبة للسعودية، فإن روسيا، وانطلاقًا من ثقافتها الارثوذكسية وباعتبارها دولة نموذجية للتآخي المسيحي ـ الارثوذكسي ـ الاسلامي والعقيدة "الاوراسية" لقيادتها، لا تريد ان يتم تحويل السعودية الى ساحة حرب، وان يتم تدميرها كما دمرت اليمن، والعراق وسوريا وليبيا، بفعل "الربيع العربي" المشؤوم. بل ان روسيا، وادراكا منها لما للاماكن المقدسة الاسلامية في السعودية من اهمية دينية وحضارية تاريخية، للانسانية جمعاء، تريد للسعودية ان لا تكون طرفا خلافيا بين العرب والمسلمين، بل ان تكون معقلا للصلح والتآخي بين العرب والمسلمين، وللتفاهم والتعاون والتفاعل بين المسلمين والمسيحيين في العالم اجمع، ضد العنصرية والاستعمار والتعصب والارهاب، ولاجل خير الانسانية جمعاء.

فهل ينتصر منطق العقل والعدل في السعودية؟

ام ينتصر "منطق" داعش وعادل الجبير؟

وحينذاك ينطبق على السعودية المثل القائل: على نفسها جنت براقش!

وعلى الباغي تدور الدوائر!

(جورج حداد - كاتب لبناني مستقل/ موقع العهد)

 

آخر الأخبار