«الحراك الجنوبي» والسعودية: ذهبت السكرة؟

تتعالى يوماً بعد يوم الأصوات الجنوبية المنتقدة لاستراتيجية التحالف السعودي في جنوبي اليمن والمطالِبة بإجراء مراجعة للمواقف التي اتخذتها قيادات جنوبية منذ بدء العدوان السعودي على هذا البلد. تأتي تلك المطالبات بعدما استشعرت الأجنحة الحراكية التي انخرطت في القتال أنها تقترب من حائط مسدود لا أمل معه في تحقيق أي من الطموحات التي كانت تتطلع إليها، خصوصاً أن للرياض وحلفائها أجندة مباينة لا ترى إلى الحراك أكثر من أداة وظيفية

خليل كوثراني, دعاء سويدان

لليمن بشماله وجنوبه تاريخ «غير ودي» طويل مع جارته الدولة السعودية بنسخها الثلاث. على مرّ عقود من الزمن، اصطبغت العلاقة بين الطرفين بالخصومة التي تقلبت بين مدّ وجزر، وبلغت في أحايين كثيرة حد العداء والاحتراب.

المفارقة التي لا يفطن إليها كثيرون هي أن الشطر الجنوبي من هذا البلد، كانت أشد ملازمة لموقع التضاد مع النظام السعودي من نظيره الشمالي. يتضح ذلك من خلال سلسلة شواهد تاريخية، تبدأ منذ ما قبل الاحتلال البريطاني لليمن الجنوبي وصولاً إلى ما بعد توحيد الدولتين. ويزخر تأريخ الغزو الوهابي للحواضر اليمنية إبان الدولة السعودية الأولى بالكثير من الجرائم التي شملت غير منطقة في الشمال والجنوب من حضرموت إلى الحديدة مروراً بصنعاء. وتنوعت تلك الجرائم بين القتل والتدمير وإحراق المكتبات وهدم الأضرحة وملاحقة العلماء.
في ستينيات القرن الماضي، تجلى موقف الجنوبيين تجاه السعودية من خلال دعمهم لـ«ثورة 26 سبتمبر» بوجه النظام الملكي المدعوم سعودياً. عشرات الآلاف من أبناء الضالع ويافع وردفان وشبوة زحفوا باتجاه مأرب وصنعاء وحجة وصعدة للانخراط في صفوف الثورة والدفاع عنها. مهد انتصار «ثورة 26 سبتمبر» لانطلاق «ثورة 14 أكتوبر» على الاحتلال البريطاني في الجنوب التي ستكرس تموضع اليمن الجنوبي في المعسكر المعادي لمحور الرياض ــ واشنطن. ترجم هذا العداء إلى اشتباكات بين الطرفين امتدت على أكثر من منطقة في محافظتي شبوة وحضرموت. وقد عمدت السعودية في تلك الحقبة إلى تشكيل «جيش الإنقاذ الوطني» من المعارضين الذين فروا إلى أراضيها، بهدف محاربة حكومة الجبهة القومية تحت شعار «إنقاذ البلاد من نفوذ الشيوعية الحمراء».
في الخطاب السياسي، تمسّك نظام عدن بالقطيعة مع ما كان يسميها «أنظمة الرجعية». قطيعة لم تنكسر تماماً على الرغم من التطبيع الدبلوماسي الذي تأخر حتى عام 1976. ظلت أصابع الاتهام موجهة إلى المملكة بالتآمر على حكومة عدن وزرع الجواسيس وبث الدعاية المناهضة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. عقب حرب صيف 1994، التزمت الرياض دعم كل من الرئيس السابق علي عبد الله صالح ومشائخ آل الأحمر الذين كانت لهم اليد الطولى في زعزعة أسس الوحدة التي ارتضاها الجنوبيون عام 1991 وفي تهميش محافظات «الجمهورية الديمقراطية» (سابقاً) وهضم حقوقها.
على مرّ عقدين من الزمن، لم يجد الجنوبيون مؤيداً لقضيتهم سوى بعض المعارضين لنظام صالح، وفي مقدمهم حسين الحوثي الذي لاحقته تهمة «مساندة الانفصال» و«مناصرة الحزب الاشتراكي اليمني» في حرب 94 مذ كان عضواً في البرلمان عام 1993 مروراً بتوليه إدارة منتدى «الشباب المؤمن» عام 1997، وصولاً إلى اغتياله عام 2004. وتواصل خطاب التعاطف تجاه القضية الجنوبية مع تولي عبد الملك الحوثي زعامة حركة «أنصار الله». واظب الأخير على تضمين خطبه عبارات التشديد على ضرورة إيجاد حل عادل لهذه القضية، حتى ما بعد رحيل صالح عن رأس السلطة.

«عاصفة الحزم» وسكرة الآمال

أحداث كثيرة مرّت بعد «ثورة التغيير» بلغت ذروتها في 26 آذار 2015 مع إعلان السعودية حربها على اليمن. عند هذا المفصل، اختلطت الأوراق وانقلب المشهد رأساً على عقب. أعادت «عاصفة الحزم» إحياء آمال البعض بالانفصال، على الرغم من أن الرياض وحلفاءها لم يضعوا أياً من مطالب الجنوبيين على أجنداتهم. استسهلت قيادات «الحراك الجنوبي»، مأخوذةً بسكرة هذه التطورات، الانجرار إلى خطاب التحالف السعودي و«الشرعية» المدعومة من قبله. هنا، ظهرت قيادات أجنحة في الحراك أشبه ما تكون بـ«كومبارس» سياسي وإعلامي مهمته ترداد شعارات غريبة عن أدبياته، من قبيل «دعم الشرعية» و«إنهاء التمرد». الأغرب أن وجوهاً جنوبية تسرعت في الإشادة بالتدخل السعودي بوصفه «إغاثة لشعب الجنوب وانتصاراً لمطالبه». هذا الخطاب المنفصم والمتضعضع رأى إليه النظام السعودي الوقود الأمثل لتسيير المعركة وفقاً لمشروعه الخاص.

تتعالى يوماً بعد يوم الأصوات الجنوبية المنتقدة لاستراتيجية التحالف السعودي في جنوبي اليمن والمطالِبة بإجراء مراجعة للمواقف التي اتخذتها قيادات جنوبية منذ بدء العدوان السعودي على هذا البلد. تأتي تلك المطالبات بعدما استشعرت الأجنحة الحراكية التي انخرطت في القتال أنها تقترب من حائط مسدود لا أمل معه في تحقيق أي من الطموحات التي كانت تتطلع إليها، خصوصاً أن للرياض وحلفائها أجندة مباينة لا ترى إلى الحراك أكثر من أداة وظيفية

خليل كوثراني, دعاء سويدان

لليمن بشماله وجنوبه تاريخ «غير ودي» طويل مع جارته الدولة السعودية بنسخها الثلاث. على مرّ عقود من الزمن، اصطبغت العلاقة بين الطرفين بالخصومة التي تقلبت بين مدّ وجزر، وبلغت في أحايين كثيرة حد العداء والاحتراب.

المفارقة التي لا يفطن إليها كثيرون هي أن الشطر الجنوبي من هذا البلد، كانت أشد ملازمة لموقع التضاد مع النظام السعودي من نظيره الشمالي. يتضح ذلك من خلال سلسلة شواهد تاريخية، تبدأ منذ ما قبل الاحتلال البريطاني لليمن الجنوبي وصولاً إلى ما بعد توحيد الدولتين. ويزخر تأريخ الغزو الوهابي للحواضر اليمنية إبان الدولة السعودية الأولى بالكثير من الجرائم التي شملت غير منطقة في الشمال والجنوب من حضرموت إلى الحديدة مروراً بصنعاء. وتنوعت تلك الجرائم بين القتل والتدمير وإحراق المكتبات وهدم الأضرحة وملاحقة العلماء.
في ستينيات القرن الماضي، تجلى موقف الجنوبيين تجاه السعودية من خلال دعمهم لـ«ثورة 26 سبتمبر» بوجه النظام الملكي المدعوم سعودياً. عشرات الآلاف من أبناء الضالع ويافع وردفان وشبوة زحفوا باتجاه مأرب وصنعاء وحجة وصعدة للانخراط في صفوف الثورة والدفاع عنها. مهد انتصار «ثورة 26 سبتمبر» لانطلاق «ثورة 14 أكتوبر» على الاحتلال البريطاني في الجنوب التي ستكرس تموضع اليمن الجنوبي في المعسكر المعادي لمحور الرياض ــ واشنطن. ترجم هذا العداء إلى اشتباكات بين الطرفين امتدت على أكثر من منطقة في محافظتي شبوة وحضرموت. وقد عمدت السعودية في تلك الحقبة إلى تشكيل «جيش الإنقاذ الوطني» من المعارضين الذين فروا إلى أراضيها، بهدف محاربة حكومة الجبهة القومية تحت شعار «إنقاذ البلاد من نفوذ الشيوعية الحمراء».
في الخطاب السياسي، تمسّك نظام عدن بالقطيعة مع ما كان يسميها «أنظمة الرجعية». قطيعة لم تنكسر تماماً على الرغم من التطبيع الدبلوماسي الذي تأخر حتى عام 1976. ظلت أصابع الاتهام موجهة إلى المملكة بالتآمر على حكومة عدن وزرع الجواسيس وبث الدعاية المناهضة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. عقب حرب صيف 1994، التزمت الرياض دعم كل من الرئيس السابق علي عبد الله صالح ومشائخ آل الأحمر الذين كانت لهم اليد الطولى في زعزعة أسس الوحدة التي ارتضاها الجنوبيون عام 1991 وفي تهميش محافظات «الجمهورية الديمقراطية» (سابقاً) وهضم حقوقها.
على مرّ عقدين من الزمن، لم يجد الجنوبيون مؤيداً لقضيتهم سوى بعض المعارضين لنظام صالح، وفي مقدمهم حسين الحوثي الذي لاحقته تهمة «مساندة الانفصال» و«مناصرة الحزب الاشتراكي اليمني» في حرب 94 مذ كان عضواً في البرلمان عام 1993 مروراً بتوليه إدارة منتدى «الشباب المؤمن» عام 1997، وصولاً إلى اغتياله عام 2004. وتواصل خطاب التعاطف تجاه القضية الجنوبية مع تولي عبد الملك الحوثي زعامة حركة «أنصار الله». واظب الأخير على تضمين خطبه عبارات التشديد على ضرورة إيجاد حل عادل لهذه القضية، حتى ما بعد رحيل صالح عن رأس السلطة.

«عاصفة الحزم» وسكرة الآمال

أحداث كثيرة مرّت بعد «ثورة التغيير» بلغت ذروتها في 26 آذار 2015 مع إعلان السعودية حربها على اليمن. عند هذا المفصل، اختلطت الأوراق وانقلب المشهد رأساً على عقب. أعادت «عاصفة الحزم» إحياء آمال البعض بالانفصال، على الرغم من أن الرياض وحلفاءها لم يضعوا أياً من مطالب الجنوبيين على أجنداتهم. استسهلت قيادات «الحراك الجنوبي»، مأخوذةً بسكرة هذه التطورات، الانجرار إلى خطاب التحالف السعودي و«الشرعية» المدعومة من قبله. هنا، ظهرت قيادات أجنحة في الحراك أشبه ما تكون بـ«كومبارس» سياسي وإعلامي مهمته ترداد شعارات غريبة عن أدبياته، من قبيل «دعم الشرعية» و«إنهاء التمرد». الأغرب أن وجوهاً جنوبية تسرعت في الإشادة بالتدخل السعودي بوصفه «إغاثة لشعب الجنوب وانتصاراً لمطالبه». هذا الخطاب المنفصم والمتضعضع رأى إليه النظام السعودي الوقود الأمثل لتسيير المعركة وفقاً لمشروعه الخاص.


آخر الأخبار