هكذا خسرت «عاصفة الحزم»

لا تعرف الدول العربية في حروبها لا ضرورة ولا حتمية ولا حتى كيفية التوقف. فهي تسيّر آلتها العسكرية في اتجاه واحد، انطلاقاً ربما من موروثها القبلي، حيث ما زالت تؤمن بمخرجات الحروب القاتلة في زمن الغزوات، خاصة تلك التي تنتهي باستسلام وسبي وأسر. ولطالما استسهلت الدول النفطية إحداث التغيير في البنى الفوقية وكذلك السفلية في المجتمعات القريبة منها، لكنها ربما لم تستشعر الأدوات ولا الآليات التي أفضت الى تحقيق مصالحها في مناطق ما بعد الحدود. وها هي اليوم، ربما للمرة الاولى، تضطر للنزول بنفسها الى الميدان، وهذا يعني بحكم الواقع ان «تتلطخ» قليلا أو كثيرا بنزيف المعارك وبارودها.
بثبات وعدم اكتراث بالفواتير. هكذا تستمر آلة الحرب العربية في إدارتها «معركة الأمة» في اليمن. فالتحالف بقيادة السعودية بدا في الأيام الأخيرة أكثر ميلا نحو تعداد «منجزات» العاصفة وما تلاها من «إعادة الأمل»، حيث إن جردة الشهور الستة الماضية تظهر إعادة انتشار قياسية نفذتها اللجان الشعبية التابعة للحوثيين وكذلك الجيش اليمني. وهكذا، باتت معظم الأراضي الجنوبية غير خاضعة لسيطرة صنعاء، وهو ما يكفي بالمفهوم السعودي لإعلان نصف نصر والوعد باستكمال النصف الثاني في العاصمة، وعلى هذا المنوال تتصرف آلة الدعاية المصاحبة للتحالف العربي.
الأمور بالمنظور الخليجي تعد شديدة الوضوح، و «الانتصار» أصبح قاب قوسين أو أدنى. وهذا تحليل لا يشعر منظّروه بالخجل وهم في نشوة سرديته فضائيا وعنكبوتيا، برغم أن تفاصيل «الكيف والذي كان» من أمور اليمن منذ بداية الحرب عليه وحتى الآن، يمكن أن تسهم بتغيير جذري في الصورة. وبمعزل عن موازين «أنصار الله» وكبريائهم، فإن حيزاً كبيراً من سطوتهم على البلاد قد تلاشى، ومعه قدرة المناورة اللامحدودة على أي مائدة تحاور قائمة أو مقبلة أو قيد الإنشاء. وفي مقابل التلاشي هذا، لا يمكن في أي حال من الأحوال ولأي طرف يمني وخاصة جنوبي أن يعلن «منجزا وطنيا» واحدا باستثناء دفع الحوثيين والجيش اليمني نحو حدود ما قبل الارتباط بين اليمنين الجنوبي والشمالي العام 1990.
لا تزيد غلة العرب من حرب اليمن الجديدة حتى الآن، عن تلك التي حصل عليها حلفاؤهم اليمنيون الجنوبيون. فالواضح أن دول «مجلس التعاون»، بديبلوماسيتها ومالها وعسكرها، لم تتقن فن إعادة التقويم المجتمعي والسياسي المتكامل. فهي غالبا ما تنخرط في الصراعات انطلاقا ممّا كان، فيغيب عنها «ما يجب أن يكون»، حيث شكّل الانقلاب الحوثي على «سلطة المبادرة الخليجية» ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي، شبه إعلان حرب من الحوثي على الرياض تحديدا، وهي التي حاولت إنتاج طبقة سياسية تحافظ على ما تيسر من مصالحها في اليمن ما بعد الثورة على علي عبدالله صالح، حليف الرياض الأول قبل التبدل الأخير. وهكذا قررت الانخراط، كما فعلت في إدارة الملف العراقي بعد غزو الكويت، وكذلك الملفات الليبية والسورية والمصرية بعد «الربيع»، لكنه انخراط في ممر أحادي المسرب.
في اليمن، لا تخرج القصة عن حكمة الحرب الأشهر، والتي تقول «إن أي غبي يمكنه احتساب عناصر القوة التي تقابله، لكن الذكي وحده من يخشى المجهول ويتحسب للمخفي». وهنا، كان من الأيسر للعرب وجارهم اليمني الصغير احتساب المخفي والمجهول والكامن، حيث إن الأرض تلك لم تعجز يوماً عن إنتاج المفاجآت والتغييرات الطارئة صاحبة المردود الاستراتيجي في كل صراعاتها الأهلية قبل الإقليمية. والمقصود هنا ليس فقط في احتساب عناصر القوة لدى أعداء التحالف العربي، بل في «الأخطار المصاحبة» للحرب، من تغيير جذري في البنية السياسية والعسكرية وربما الاجتماعية للمناطق الخارجة حديثاً عن سلطة صنعاء، وما يعنيه الأمر من انتقال فوري من حكم السلطة المركزية، الى حالة فوضوية تتداخل وربما تتصارع فيها اجندات «حملة السلاح» على تنوع أهوائهم ومشاربهم. وهنا فإن على صناع «عاصفة الحزم» إحصاء ما تخسر وما يخسره اليمن، قبل إحصاء المكاسب.
وعلى هذه الشاكلة، وببساطة كاملة، تبدي أوساط التحالف العربي رغبة شديدة بالهجوم على صنعاء، فيما تتمنع قيادة العمليات عن إعلان وقت محدد أو نية واضحة عن كيفية سير الأمور، بينما تسهب وسائل الدعاية العربية في التسويق لعملية صنعاء والاستعدادات «الهائلة» المرصودة لها، من آلاف المقاتلين القبليين المحليين ومثلهم من دول «عاصفة الحزم»، فيما على أرض الواقع، تتكئ بالونات الهواء هذه على «منجزات» عدن، وسير المعارك في تعز ومأرب. فالسيطرة على صنعاء أو صعدة، تتطلب بالحد الادنى، جيشا متكاملا وقوة ضاربة لا تقل عمّا رصد في غزو العراق، باستثناء أن الأرض قد تكون أشد صعوبة نظرا لقسوة التضاريس الطبيعية، وامتلائها بآلاف المقاتلين «النخبويين» من الحرس الجمهوري السابق والقوة الأساسية للحوثيين والمنتشرة في المناطق الشمالية. فالكل يدرك أن معارك ما بعد مأرب، تفرض إعادة صياغة شاملة للخطاب في صنعاء من وطني شامل الى وطني شمالي.
وبعيدا عن «معركة» صنعاء، تبدو الصورة أكثر اتضاحا في الجبهة الخلفية للتحالف. هناك، حيث أعلن «النصر» وبدأت عملية «إعادة الإعمار»، وبالتحديد في المحافظات الجنوبية وفي مقدمها عدن. وهناك ايضا، حيث لم يعلن أحد عن قيمة أو قدر أو كمية الخسائر على طريق «التحرير». فالواقع بات اليوم أكثر تعقيدا من زمن حرب علي سالم البيض مع صنعاء العام 1994. عدن اليوم يتداخل فيها مشروع التقسيم بقيادة «الحراك الجنوبي» أو ما يسمى «المقاومة الشعبية» مع مشروع «الإصلاح» صاحب الصبغة «الإخوانية» وما يحمله من إعادة إنتاج للنموذج الموحد، انما ضمن منظومة تقسيمات على مستوى المحافظات والأقاليم تخدم فكرة «التقسيم المذهبي» النهائي. وبين المشروعين يطل ثالث أكثر راديكالية ممثلاً بتنظيم «القاعدة» أو ما يشبهه على الارض اليمنية.
على «الارض المحررة» يقتتل الخليجيون كما فعلوا ويفعلون في مصر وليبيا وسوريا، حيث يمضي حزب «التجمع اليمني للإصلاح» المدعوم من قطر بالسيطرة على المراكز الحساسة كمحافظة عدن وإدارة مطارها ومصافيها ومراكز إغاثتها، بإشراف شخصيات عدنية «إخوانية» أساسية كطارق عبده ونايف البدري، فيما ينفذ تنظيم «القاعدة» عملية قضم بطيئة انما فعالة لمناطق عديدة من عاصمة الجنوب اليمني، حيث فرض نفسه كقوة أساسية في التواهي والمناطق المحيطة بالميناء، حيث عمد «القاعدة» الى رفع راياته ثم سحبها مباشرة كخطوة تكتيكية لإلزام الآخرين بالاعتراف بوجوده على الأرض، برغم أن التنظيم قلص عملية ظهوره الإعلامي بطلب خليجي كما تقول أوساط «الحراك الجنوبي»، كي لا يتهم التحالف العربي بدعم الإرهاب. الحراك الجنوبي باعتباره القوة العسكرية الأبرز التي ساهمت في «منجزات» المعركة ضد صنعاء، بدا وكأنه الضحية الأكبر «للأضرار الجانبية» المصاحبة للعاصفة. فالتيار الأكثر شعبية في عدن دخل المدينة برايات دولة الجنوب السابقة، بقيادة العميد عيدروس قاسم الزبيدي المدعوم إماراتيا وصاحب السيرة الحسنة في الشمال والجنوب، وعينه على تثبيت الواقع ونقله الى منجز «وطني» يمكن استثماره بانفصال كامل أو فدرلة مرضية للجميع. وحاول انطلاقا من هناك فرض خطة أمنية على عدن ومحيطها لوقف التدهور واستلام المناطق التي وقعت تحت سيطرة «القاعدة» وميليشيات «الإصلاح». لكن قيادة التحالف لم تظهر رغبة في تعويم الرجل ومشروعه في الجنوب، ما أنتج توترا قد يفضي الى انسحاب قوات عيدروس الى الضالع في أي وقت من الأوقات.
ضرر مصاحب آخر أنتجته حرب «التحالف» على اليمن، ويتمثل بالفاتورة الاجتماعية والإنسانية الشديدة الثقل والتعقيد. فالآلاف قتلوا وجرحوا وشردوا، وما تيسر من منظومة «الدولة» المبنية منذ الوحدة تدمر أو على وشك أن يدمر. فيما الأثر الأكثر عمقا يقبع في معضلة الارتباط بين عدن وصنعاء وما تلاه، حيث أذكت الحرب هذه روح الانقسام المجتمعي إذكاءً غير مسبوق، فأضحت الخلافات صاحبة الخلفية «الجنوبية والشمالية» تشمل رفاق الخندق الواحد كما يحصل في مأرب وتعز وعدن. بينما تعكف وسائل الإعلام العربية على دراسة وإحصاء «الشوافع والزيود» بأعدادهم ومراكز ثقلهم، في استنساخ لتجاربها في لبنان والعراق وسوريا، وفي تعزيز لانقسام تاريخي بين المكوّنات اليمنية.


(عبدالله زعيب/السفير)

آخر الأخبار