اليمن يمنان... مجدداً؟

في خريف العام 2014، وبعد انتهاء المكوّنات السياسية لـ «الحراك الجنوبي» في عدن من احتفالهم بذكرى «ثورة أكتوبر» من العام 1963 ضد المستعمر البريطاني، تفاجأ كثيرون بالقرار «الجاهز» وقتها من نافذين داخل «الحراك»، المتمثل بالبقاء في مديرية خور مكسر وفي ساحة العروض تحديداً، في استنساخ للتجارب الأوكرانية واللبنانية وحتى المصرية القريبة، والتي برزت فيها نظرية «التخييم السياسي» مجدداً كأداة للضغط على السلطة المركزية. والمطلب كان بوضوح «فك الارتباط»، وهو ما يعني عملياً تقسيم اليمن وعودة جنوبه الى حدود ما قبل الوحدة العام 1990 مع عاصمته عدن.
بدا التحرك وقتها بمثابة المزاح الثقيل للناظر في صنعاء. فالرئيس عبدربه منصور هادي الوارث لحقبة الزعيم «التاريخي» علي عبدالله صالح، لم يكن معنياً على الإطلاق بالحركة الاحتجاجية في محافظات الجنوب اليمني منذ حرب العام 1994 بين آخر رؤساء الجنوب علي سالم البيض ورئيس النسخة الموحّدة علي عبدالله صالح. فعبد ربه منصور كان من أشد المناوئين لفكرة الانفصال وقتها ووقف الى جانب صنعاء خلال الحرب وبعدها، بل أشرف شخصياً على حزمة القوانين المشابهة لـ «اجتثاث البعث» في العراق، والتي استهدفت آلاف العناصر المنتمية للجيش الجنوبي السابق والإدارات المدنية التي اعلنت ولاءها للبيض في حربه الانفصالية تلك. لذا لم يستشعر «الوحدويون» بقرب الانسلاخ او حتى بكونه مطلباً يحمل قدرة كامنة على التحول الى واقع.
المعتصمون في «ساحة العروض» بخور مكسر استنفدوا في شهور قليلة كل رومنسيات الاعتصام المدني او ما سمّوه هناك «الحراك السلمي»، وأطلقوا على اثر ذلك سلسلة تحركات لم تبتعد عن الاطار المطلبي الانفصالي، انما ضمن المعقول من الاساليب التي لا تخرج السلطة المركزية من عقالها، كما انها لم تتسبب بشل الحياة العامة في مناطق ازدهارها. وفي المقابل، فإن المشاركة الشعبية بالتظاهرات اليومية بدأت بالتراجع منذ بداية العام 2015، وبدا وكأن الأمور تسير باتجاه السبات ومعه سلة المطالب المتكاملة، لكن الانتعاشة غير المسبوقة لواقع خور مكسر وما تمثله من مشروع انفصال، شهدت فصلاً آخر مع انطلاقة عمليات «عاصفة الحزم» التي استهدفت الجيش اليمني وحلفاءه الحوثيين.
الواضح من البداية وفقاً للاهداف المعلنة للحرب السعودية – العربية على صنعاء، أن مسألة الانفصال لم تكن في الحسبان، خاصة مع اصرار الرياض على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي وضرورة عودته الى صنعاء بالشروط التي وضعتها مع بدء الحرب. وفي واقع مغاير لما خلقه الحوثيون وحليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح منذ السيطرة على البلاد في ايلول 2014، حيث كان الهدف الاساسي خلق ثقل خارجي وازن لمنصور هادي وما يمثل من مصالح خليجية في الداخل اليمني مقابل الثنائي صالح ـ الحوثي، وعلى اعتبار ان الرياض واعداءها في الساحة اليمنية اثبتوا قدراً مقبولاً من العقلانية في ادارة الحرب، فقد بــــدت الامور وكأنها تسير نحو حل سياسي يرضي الجميع في الداخل والخــارج، ولم تكن الوحدة أمراً مطـــــروحاً او حتى جزءاً من أجندات المنخرطين «الاساسيين».
الخطأ العربي واليمني المشترك كان في عدم الاكتراث بالعضلة البرية التابعة لـ «عاصفة الحزم» وما تلاها من «عودة الامل». فالمقاتلون في المحافظات الجنوبية كانوا، بعد الهزيمة السريعة للجان الشعبية التابعة لناصر منصور هادي، شقيق الرئيس، من مكوّنات «الحراك الجنوبي». وفيما سوّقت الدعاية المصاحبة للحرب السعودية مصطلحات كـ «الجيش الموالي لهادي» و «المقاومة»، وفيما سوّق الحوثيون لبعبع «داعشي» و «قاعدي»، تمكن المشروع الانفصالي من التسرب وبسرعة قياسية الى الصفوف الأمامية المواجهة للجيش اليمني وحلفائه «انصار الله». وبات الواقع في الظاهر والمضمون مغايراً بشكل شبه كامل عما ارادت الرياض وعما حذرت منه صنعاء. فالجيش الوحدوي الموالي للشرعية كان سراباً وضرباً من ضروب الفقاعات الاعلامية غير الناجحة، تقابله «فزاعة الحوثي» من حشد تكفيري مفقود في عدن حتى اللحظة، بمعزل عن تقدم «تنظيم الدولة» او «القاعدة» في مناطق حضرموت وتلك حكاية اخرى.
فرضت طائرات الحزم مع الوقت قبة حديدية في سماء المحافظات الجنوبية، وبدأت بتنفيذ عملية دعم لوجيستي وتنسيق وارتباط شبه متكامل مع الموجودين على ارض الميدان، فأصبحت الضربات في الاسابيع الاخيرة محصلة لواقع القتال وتعاطياً مباشراً مع يومياته. وقد أثمر هذا مع الدعم المتواصل للمجموعات المقاتلة وتدريب آلاف عدة في الصحراء السعودية، نوعاً من التقدم الميداني خاصة في عدن وجوارها، بعد التقدم الاول الذي أحرزه «الجنوبيون» في معركة الضالع. ومع دخول فرق إعلامية عربية واجنبية الى عدن ومناطق اخرى جنوب اليمن، ظهرت الصورة الأكثر تعبيراً عن الهوية العقائدية للمقاتلين. فأعلام دولة الجنوب تملأ الشوارع والآليات والعربات المصفحة والحواجز والمقار العسكرية، بل اصبحت زينة للاسلحة الفردية على شاكلة ما يمارسه «انصار الله» من وسم بنادقهم بشعار الجماعة. هكذا، اضحت التخريجة «الوطنية» للصراع واضحة المعالم. فالانفصاليون بالمفهوم الوحدوي اليمني باتوا القوة العسكرية المهيمنة على ضفة الخصومة الأخرى. فلا لجان منصور هادي ولا «إصلاح» آل الأحمر والشيخ الزنداني، ولا حتى خصوم الحوثي في الشمال توقعوا مثل هذه النتيجة التي فرضت بفعل الواقع. وأثبتت ان الغوص العربي في «الوحول اليمنية» لم يكن عملية محسوبة ومدروسة، إذا ما كان الركون في التحليل دوماً الى صدق نية الرياض وحلفائها في تحقيق مصالحهم ضمن نموذج اليمن الموحّد.
لا ينعزل الواقع هذا عن الصورة الكبرى للصراع. فالانسلاخ الجنوبي أوجد لنفسه أمراً واقعاً وفعلاً ميدانياً يفوق أي تخريجة سياسية متوخاة من صالونات القاهرة والرياض وطهران ومسقط. والبناء «الفوقي» المتوقع ليمن ما بعد الصراع القائم اليوم، سينطلق من القاعدة صعوداً، خاصة في شقه الجنوبي، حيث إن فعل «التحرّر» من «الاحتلال الشمالي» أضحى نتيجة لصراع بشعارات وأهداف أخرى. بل ان النتيجة «التاريخية» هذه للمنادين بالعودة الى ما قبل الوحدة كانت «عرضية» بامتياز، وحتى من دون تخطيط وتدقيق بالتفاصيل، بل كانت انقياداً غريزياً نحو معركة، الواضح الوحيد فيها طبيعة الخصم وهويته، حيث شكلت الأهداف نتاجاً متتالياً وعملية يومية تتصل بطبيعة الميدان ومخرجات العلاقة بين المكوّنات اليمنية الجنوبية، وكذلك العلاقة مع الخارج وفي مقدّمه المملكة العربية السعودية.
على المقلب الآخر، لا يبدو عبدالملك الحوثي مكترثاً، او هكذا يظهر، بنتائج معركة عدن. فالرجل يُصرّ حتى الآن على رفض الطبيعة التقسيمية للصراع، وكون الاصطفاف القائم اليوم، باستثناء تعز، اصطفافاً مبنياً على نتائج الوحدة وما تلاها من تجاوزات افضت الى حرب العام 1994، التي تحوّلت الى منعطف وطني ومجتمعي اساسي في خلق مصطلح «المظلومية الجنوبية». وهو شعار كان من بين شعارات الحوثيين بداية نشاطهم الإعلامي والسياسي، وكذلك في خطابات مرحلة ما بعد «الربيع العربي».
تصر جماعة «انصار الله» في خطابتها على أن المعركة ما زالت ضد التكفيريين من «داعش» و «القاعدة» ومن والاهم في ظل العباءة السعودية، وهو تصدير سياسي يقابله إصرار الرياض على ان قوة «الشرعية» هي مَن يواجه الحوثيين ومن تسميهم الموالين لعلي عبدالله صالح، في تغييب مقصود لوقوف الجيش الى جانب القيادة في صنعاء. هذا الإصرار من الجانبين يُفضي مع مرور الوقت الى تبني خيارات عسكرية بمنطق «إعلامي» بعيد عن الواقع وإنتاجه لأزمات مغايرة عن المخططات الاساسية للأطراف كافة، حيث تبدو الرياض أكثر استعداداً لاستثمار اللحظة، وبالتحديد في تصوير وسائل دعايتها لهبوط الطائرات في مطار عدن على شاكلة الحدث القاصم لظهر الحوثيين، والمؤسس لأرضية جديدة ينطلق منها الجهاز الحاكم السابق واللاجئ في الرياض نحو صنعاء، فيما لا تستطيع المملكة بكل «حزمها» تفسير غياب «اليمن» اسماً وراية عن الميناء الجوي لعاصمته الثانية، حيث إن صنعاء تسمّى في المحافل السياسية المتنقلة وغير الآمنة في عدن بـعاصمة «العربية اليمنية».
في المقابل، يفشل الزعيم الشاب عبدالملك الحوثي في كل مناسبة علنية يخرج فيها بخطبة أو بيان، في عملية مد الجسور مع أصدقاء الأمس وأعداء اليوم في المحافظات الجنوبية، وبالتحديد مكوّنات «الحراك الجنوبي». فالمظلومية والإصلاح والقضايا الاجتماعية تخطاها الزمن واحترقت شعاراتها بلهيب القذائف المتبادلة بين الطرفين. والصفحة الجديدة إذا ما كانت النية صادقة في فتحها، يجب أن تنطلق من «محظورات» عصر علي عبدالله صالح. فتسارع الأحداث اليوم لا يمكن أن يفرض حداً أدنى للشعارات «الغزلية» التي لا يجب أن تهبط عن مستوى «تقرير المصير» أو «الاستفتاء». فـ «البلقنة» و «الصوملة» و «العرقنة» كلها نماذج تعدّ جاهزة للاستيراد غب الطلب، في احد اعقد بقاع الارض وأغزرها نكأً للجراح.

(عبدالله زعيب/السفير)

آخر الأخبار