باب المندب «مضيق» يتسع لكل الصراعات

يقع مضيق باب المندب ما بين سواحل اليمن من الشرق وجيبوتي من الغرب وتتوسطه جزيرة بريم «ميون» اليمنية فتقسمه إلى معبرين، شرقي بعرض ثلاثة كيلومترات قليل العمق (30 متراً) وغربي بعرض نحو 22 كيلومتراً وبعمق نحو 300 متر، ما يجعله الأكثر اعتماداً لحركة السفن.

ومع احتدام المعارك بين أنصار الله والجيش اليمني وقوى التحالف السعودي، أطلق الجيش اليمني وأنصار الله عملية عسكرية واسعة وضعت في أولى أوليّاتها السيطرة على ميناء المخا، أذكر يومها أنني سألت صديقاً يمنياً متابعاً لتفاصيل الميدان «لماذا المخا لا تعز أو أيّ مدينة استراتيجية أخرى وأكبر حجماً».. فأجاب هي معركة باب المندب لا المخا!

وفي الحقيقة، كما في الوقائع الميدانية والسياسية والجيوسياسية، فإنّ كل المعارك في اليمن تؤدي إلى باب المندب، سواء كانت خلفيات الصراع داخلية على السلطة أو خارجية بدافع الهيمنة، وأياً تكن أوليّات أطراف الصراع، فالواقع الجغرافي يفرض نفسه، وأوراق القوة، تُجمع ورقة ورقة ومتراً متراً، لتحقيق التفوق على الأرض وتثبيت المعادلات في مواجهة المحاور الإقليمية والدولية، تلك التي تخوض الحرب سرّاً أو علناً أو حتى تلك التي تراقب من بعيد وعينها على المضيق.

ومضيق باب المندب هو رابع أكبر الممرات المائية في العالم ويعدّ شرياناً رئيساً للحركة الاقتصادية والتجارية العالمية، واكتسب أهميته بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، فأصبح يربط المحيطين الهادي والهندي وبحر العرب بخليج عدن، وأحد أهم المنافذ البحرية لتدفق الصادرات النفطية من دول الخليج إلى العالم كما يمثل ممراً مائياً استراتيجياً لعبور ما يزيد عن أربعة ملايين برميل نفط يومياً ما يشكل 30 في المئة من نفط العالم بحيث يبلغ عدد سفن النفط التي تمر فيه 21 ألف قطعة بحرية سنوياً وبما يعادل 57 قطعة يومياً وتمرّ منه كل عام 25 ألف سفينة. إغلاق هذا المضيق سيحرم الناقلات والسفن من الوصول إلى قناة السويس وسيجبرها على تحويل مسار إبحارها حول الطرف الجنوبي لأفريقيا وهي رحلة تستمر 40 يوماً على الأقل.

ميدانياً، تعدّ السيطرة على باب المندب إنجازاً استراتيجياً كبيراً، لكن السيطرة بالمعنى الكامل في المنطقة الجغرافية المحيطة بالمضيق أمر معقد ولا يمكن احتسابه بالكيلومترات، وخاصة أنّ الساحل اليمني المحاذي للطريق البحري بين باب المندب وقناة السويس يمتد بطول 450 كيلومتراً، من جزيرة «ميون» (بريم) إلى ميدي، ومن هنا تكتسب معارك الموانئ والمنافذ البحرية أهميتها، ولا يعدّ الحسم فيها ناجزاً إلا بالسيطرة على كامل الشريط الساحلي الغربي، الأمر الذي يوضح إصرار التحالف السعودي على مواصلة هجماته على جبهة ميدي في محاولة دائمة لتحقيق تقدم برّي مواز للحصار البحري، بما يسمح لقواته وللقوات المتحالفة معها بالسيطرة على ميناء الحديدة، آخر الموانئ اليمنية الهامّة تحت سيطرة الجيش اليمني وأنصار الله.

تعقيد آخر يضاف إلى عقدة الشريط الساحلي الطويل، يتمثل بسيطرة الجيش اليمني وأنصار الله على سلسلة جبال صعبة التضاريس في المناطق المحاذية أو المطلّة على الشريط الساحلي، التي استطاعوا من خلالها إفشال عمليات التثبيت والتمكين التي قامت بها القوات المدعومة من التحالف السعودي على الساحل الممتد بين كهبوب والمخا، كما تمكنوا من إفشال كافة الهجمات المدعومة بغطاء نيران بحري وجوي كثيف، وكافة محاولات التقدم باتجاه سفوح الجبال أو محيطها.

القوات المدعومة من السعودية التي سبق أن حشدت عدداً كبيراً من الألوية لتأمين منطقة المضيق، كانت قد تقدمت على الشريط الساحلي باتجاه «ذوباب» في منطقة جغرافية واسعة تمتد من الساحل حتى معسكر العمري وجبال العمري، وهي وضعت لهذه المعركة التي أطلقت عليها «الرمح الذهبي» أهدافاً أقلّها تأمين بوارج وسفن التحالف خلال عبورها بمحاذاة الساحل الغربي لليمن وأكثرها طموحاً «تأمين كامل الساحل

الغربي» وصولاً إلى ميناء الحديدة، إلّا أنّ هذه الأهداف لم تتحقق بالرغم من تحقق السيطرة على جزء كبير من الساحل الجنوبي الغربي، خاصّة مع انتقال الجيش اليمني وأنصار الله إلى إحكام السيطرة بالنار مع تعذّر السيطرة البرّية بسبب الاستهداف الجوي والبحري المتزامن مع الهجمات البرية للقوات المدعومة من السعودية والإمارات.

ولا شك بأنّ استخدام الجيش اليمني وأنصار الله، سلاح العمليات البحرية المتواصلة بتواتر منتظم وفي توقيت ميداني وعسكري مدروس، سواء عبر استهداف سفن التحالف العسكرية أو سفن شحنه وإمداداته، بصواريخ أرض - بحر حيناً وبالزوارق المفخخة حيناً آخر، يُثبِت معادلة أخرى تضاف إلى معادلة الشريط الجبلي، تُفقد التحالف السعودي السيطرة الكاملة على الممر البحري، وتبقي قبضة الجيش اليمني وأنصار الله قادرة على الوصول إلى منافذه ومساراته في اللحظة الميدانية المناسبة والتوقيت السياسي المطلوب.

دولياً وعلى المستوى الاستراتيجي، رفع التحالف السعودي - الإماراتي خلال معركة باب المندب شعار «ضرورات الأمن العالمي» ومنع تمدد النفوذ الإيراني عبر حلفائه إلى مضيق باب المندب، وهو شعار بالإضافة إلى صيغته الدعائية التي تتماهى مع التصريحات الأميركية والإسرائيلية على حد سواء، دفع رئيس المجلس السياسي الأعلى في اليمن صالح الصماد إلى عدّ معركة باب المندب معركة مع إسرائيل، مشيراً إلى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين حول خطر اقتراب الحوثيين من المضيق، رغم إثباتهم عكس ذلك للعالم، ببقاء المضيق البحري آمناً أمام الملاحة الدولية، إلّا أنها تؤكد أنّ إسرائيل هي رأس الحربة في هذه المعركة، ولقاءات مسؤوليها مع المسؤولين السعوديين هي أحد المؤشرات على ذلك.

تصريحات الصماد التي سبقت بتوقيتها سيطرة الإمارات على جزيرة سقطرى بشكل كامل، واتفاقية تنازل جمهورية مصر العربية عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير لمصلحة السعودية، وكشف قناة الجزيرة عن القواعد الإماراتية - الإسرائيلية المشتركة على الأراضي الإريترية (ميناء عصب ومكعكع بجانب الإسرائيليين - الذين عسكروا في جزيرة دهلك قبالة جزيرة فرسان السعودية)، كل هذه الوقائع مجتمعة تؤكد أنّ السيطرة على باب المندب لم تعد تقتصر على عمليات عسكرية محدودة على الأراضي اليمنية، بل توسعت وامتدت مدفوعة بالصراع الإقليمي - الدولي وشبكة المصالح المعقدة لتشمل عدة دول على جانبي المضيق شرقاً وغرباً، وباتت الجزر المتناثرة في عرض البحر من مضيق باب المندب وصولاً إلى مضيق تيران حلبة جديدة من حلبات الصراع المتعدد الأشرعة على طرفي هذا الممر البحري الاستراتيجي.

 

(جمال شعيب / كاتب وإعلامي لبناني - جريدة الاتحاد اللبنانية)

آخر الأخبار