السعودية وقيادة المنطقة بين الممكن والوهم

يعتقد البعض من الساسة في السعودية ومنذ زمن بعيد بأن الثروة هي الأساس لقيادة العرب والعالم الاسلامي، وهم إلى هذه القيادة يطمحون. لا بأس فالطموح مشروع خاصة لدولة بحجم السعودية ومواردها. ولكن هل المال وحده كافٍ لنيل هذا المراد؟! الجواب: لا بالتأكيد.
فعلى سبيل المثال الناتج المحلي للصين اكبر منه في روسيا بحوالي ست مرات، ومع ذلك فإن الثقل السياسي والدور الذي تشغله روسيا على الساحة العالمية بما فيها الآسيوية يتفوق على الصيني، ومثال أخر بين ايران واندونيسيا التي يبلغ ناتجها القومي ضعف ما لدى ايران، ومع ذلك فالدور السياسي والاستقطابي لايران اكثر بكثير مما لدى اندونيسيا.

ليس من الموضوعية اسقاط عاملي المال والاقتصاد في أهلية القيادة، لكنهما غير كافيان، بدليل أنهما لم يمكنا السعودية من احتلال دور مصر في قيادة العالم العربي حقبة الستينات التي شهدت صراعا كبيرا بين البلدين. وكعادتها سخت السعودية بمالها لتدرك هذا، منها ما دفعته من اموال لفك عرى الوحدة السورية المصرية، بلغت اخر الدفعات التي (أثمرت) الأنفصال ثمانية مليون جنيه استرليني، جاءت (ثمناً) لانقلاب 28 ايلول /سبتمبر 1961، وهو مبلغ كبير جداً بمقايس ذلك الزمن؛ من المفارقات الطريفة أن هذا الرقم صرح به الملك سعود للرئيس عبد الناصر في جلسة اعتراف بعد ان ذهب إليه كلاجئ سياسي إثر انقلاب شقيقه عليه وولي عهدة الملك الأسبق فيصل!. استطرادا ربما لا يعرف بعض القراء بان عدداً من أمراء آل سعود قد لجأءوا إلى مصر هربا من شقيقهم سعود،  منهم خالد الملك فيما بعد، وطلال والد الوليد، والذي تنازل عن لقب الإمارة مشكلاً طلائع معارضة سعودية كان لها في صوت العرب حصة تحت مسمى "ركن الجزيرة العربية"، كان هذا بالطبع قبل أن (تسترده) السعودية في عهد فيصل عن طريق أحد اصدقائها اللبنانيين !!! .

مصر و"عبقرية المكان"

ظلت قيادة المنطقة حتى غياب عبد الناصر معقودةً لمصر سواء في عهدها الملكي او الجمهوري فيما بعد، المنافس الحقيقي لها كان العراق سواء قبل عهده الجمهوري أو معه إبان الحقبة البعثية، وكاد أن يكون مرشحاً لذلك فقط لو أتيحت له قيادة بعيدة النظر تُحسِّن في شروط المكان مستفيدة من الثقل النوعي لبلاد ما بين النهرين الزاخرة بامكانيات بشرية ومادية ممتازة . غير إن مصر بحكم الواقع تصلح نموذجاً للمقارنة وحيث كانت مفتاح المنطقة، وقادتها لحقب زمنية عديدة، والحديث عن المكان يقودنا إلى ابرز الباحثين في الجغرافيا السياسية الدكتور جمال حمدان الذي رد دور مصر إلى ما اسماه "عبقرية المكان" . وهذا حق فهو مكان اتيح له ما يعز ان تجده في بلد آخرِ؛ يشرف على بحرين ويمسك بخليجين، وصلة الوصل بين اسيا وأفريقيا، ثم بات يمسك ب10 % من التجارة العالمية تمخر عباب البحر الأحمر لتمر من وإلى قناة السويس، وعبر صحرائه يخترق اكبر انهار العالم مستقطبا تواجداً سكانيا حضرياً هو الأكبر في المنطقة، صنع إلى حدود الفرادة حضارة عظيمة ودولة عميقة الجذور بعمر 5000 سنة هي ألأقدم والأعرق وبمجتمع متجانس أثنياً إلى حد بعيد. وقد أُتيح للمكان بكل هذه المزايا أنفتاح على اوروبا فيما بعد مع مجيء محمد علي باشا إليها مواكباً تطوراتها.
هنا تجدر الإشارة إلى أن لبنان كان سباقاً بمائتي عام مواكبةً للنهضة الأوروبية منذ القرن السابع عشر ايام فخر الدين المعني،  لكن لم يجتمع لدية الامتياز في المكان، وبذا سقط المشروع المعني الهادف لإمارة مشرقية معاصرة بمقايس زمانها ـ (منتصف القرن السابع عشر) ـ تمتد من حلب إلى فلسطين ومن البحر غرباُ إلى تدمر اطراف البادية العراقية .
بناء على ما سبق شكلت مصر عنصر جذب تاريخي بقوتها الناعمة متمثلة بالأزهر وجامعاتها التي احتضنت آلافاً مؤلفة من طلاب عرب وأفارقة ومن أسيا، وصولا إلى شتى أنواع الفنون كما شكلت عنصر جذب بقوتها ومواقفها، من دعم حركات التحرر. ولعل هذا امتداد لدور تاريخي كانت فيه المدافعة عن المنطقة فعلى اسوارها انكسرت الهجمة المغولية البربرية، وبوحدتها مع بلاد الشام انكسرت هجمة الفرنجة .

"حامي الحرمين"

 إن قيادة أية منطقة وبالذات العالم العربي المتنوع الأثنيات وحيث يتفاوت طيفه الأجتماعي من القبلية إلى المدنية بنسخة شبه اوروبية مثل لبنان،  يحتاج إلى مشروع متكامل واسع الرؤية، ومثاله الأقرب "مشروع القومية العربية" لجمال عبد الناصر حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وفي إطاره صعد نجم مصر صانعةً دورها كمركز استقطاب. يومها لم تكن هي الأغنى في الدول العربية، كانت السعودية تتقدم عليها في المال كما مر معنى. وبعد انكفاء المشروع الناصري وتراجع دور مصر عادت أحلام الزعامة تراود قادة السعودية، وقد ادرك الملك فيصل بأنه يحتاج إلى شرعية تغطي مسعاه، وتبرر قيادة مملكته للعالمين العربي والأسلامي فاختار خط الصراع العربي الاسرائيلي بالدعم المالي (لدول المواجهة  مصر وسوريا،  كذلك منظمة التحرير الفلسطينية وبالذات (فتح)،  وبعد حرب 73 رفع سلاح النفط في وجه الدول الغربية الداعمة لـ"اسرائيل" و شعار " تحرير الأقصى" وقد ذهب في ذلك بعيداً حتى اصطدم مع كسنجر،  فتدبر الأمريكان عملية اغتياله على يد ابن اخيه فيصل بن مساعد بن عبد العزيز؛ هذه هي الحقيقة دون الغوص في الحيثيات بالرغم من محاولات الأمريكان و(اصدقائهم) السعودين نفي ذلك !. بعد هذا الأغتيال الصدمة فهم الخلف الدرس !!، حتى إذا ما جاء الملك فهد اطلق على نفسه لقب "خادم الحرمين لشريفين " وظل هذا الحال من خلفه في إشارة إلى طي موضوع الأقصى، "اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين"! .لتنحصر مكانة المملكة في كونها بلد الحج والعمرة، وشرعية مليكها في "خدمة" الحجيج!.
أما محمد بن سلمان فإنه تحول إلى شرعية من خارج السياق التقليدي، أي شرعية البيعة من الأسرة، والشرعية الدينية لشيوخ الوهابية. فهل تراه يستطيع؟ وهل استعد لها بفرض أنه مؤهل لتحمل أعبائها. وكيف السبيل وهو في صراع مع محيطه، شرقا ايران وقطر، وجنوبا حربه على اليمن التي تستنزفه وقبلها سوريا!، وشمالاً حيث ركني الهلال الخصيب الذي يصفه بـ "الهلال الشيعي"،  و"اسرائيل" اعلنتها صراحةً " بانها لن تخوض حرباً نيابة عن السعودية ". كل هذا ومحمد بن سلمان أمام معاندة حضارية تيبست مفاصلها بالثقافة الوهابية التي خرجت أجيالاً من انصاف المتعلمين، والجهلة في حقيقة الاسلام.

 

(لؤي حسين - موقع العهد)

آخر الأخبار