«جنيف اليمني»: تفاؤل يكسر جمود المفاوضات

الواقفون أمام أفق الصراع يرون الآن أنَّ سفينة جنيف اليمني تتقدّم، والفضل يبقى لرياح مفاوضات عُمان التي تدفع أشرعتها. بعض الممثلين اليمنيين في جنيف يقولون إنَّ الإعلان عن اتفاق هدنة شاملة بات مرتقباً، قبل نهاية المؤتمر المنتظر استمراره اليوم الجمعة أو حتى يوم غدٍ السبت. صار في وسع الأمم المتحدة، الآن، الحديث عن «تفاؤل»، مهما كان عياره أو درجة حذره. ما خلق هذه الأجواء هو رؤيةٌ لحلٍّ شامل، على شكل خطة من بضع نقاط، حملها وفد صنعاء للمبعوث الدولي اسماعيل ولد الشيخ أحمد.

الخطة تقترح صيغة للهدنة الشاملة، وتجعلها من شقين لا يمكن الفصل بينهما: ضرورة العمل، في الوقت نفسه، على ملء فراغ السلطة لإنتاج مؤسسات دولة تملأ الفراغ الأمني. هنا يجب وضع آليات وجداول زمنية لكلا الشقين، من دون القفز إلى مطالب الانسحاب بلا ترتيبات أمنية وسياسية. كل ذلك جاء من تقدّم مفاوضات مسقط بين ممثلي الحوثيين والرياض بوساطة عُمانية، لتسير مجرياتها بالتوازي مع مسار جنيف.

أخبار تحلحل الجمود في المسار العُماني، وصلت المؤتمر السويسري: لم تعد طلبات الرياض، وفق ما ينقله الوسطاء العُمانيون، تشدد على انسحاب شامل. صار الحديث يدور حول خطوات حسن نيَّة، ودعوة إلى إعطاء الرياض حتى «انسحابات شكلية»، من بعض المواقع، بما يحفظ ماء الوجه ويبرِّر الذهاب إلى المهادنة ووقف القصف.

هكذا، وضع وفد جماعة «أنصار الله» وحلفاؤهم، وفد الرياض في الزاوية. فالأخير كان يردِّد طوال الوقت أنَّه جاء لتطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 2216، الذي يطالب الجيش اليمني والجماعة بالانسحاب من المدن التي يسيطرون عليها. الآن يقول وفد صنعاء إنَّه يريد أيضاً تطبيق ذلك، حتى لو لم يذكر القرار بالاسم، لكونه يمحض «الشرعية» لحكومة المنفى في الرياض. على هذا النحو، قدّم وفد صنعاء المبادرة إلى المبعوث الدولي، الذي استمع لنقاط الطرح وناقشها، واعداً بأن يجيب عليها سريعاً.

بعض أعضاء وفد صنعاء لمسوا في اللقاء ما يدعو إلى التفاؤل. يقول أحدهم لـ «السفير»، بعد لقاء ولد الشيخ أحمد، إنَّه «حينما كان يناقشنا، وينقل لنا الردود، لم يكن يتحدَّث عن وفد آخر، بل كان يكرِّر أنَّ هذا تقبله أو لا تقبله السعودية». لكن قبل ذلك، هذا المجرى يؤكد وجهة نظرهم بأنَّه «لا وجود لطرف آخر». يقصدون رفضهم الاعتراف بصيغة مفاوضات الوفدين، مع سبعة ممثلين وثلاثة مستشارين لكل وفد منهما، التي أرادتها الأمم المتحدة وأصرّ عليها خصومهم.

المؤتمر على وشك الانتهاء، ولم تطبق هذه الصيغة بأيّ شكل كان. في الأيام الماضية، كان وفد الرياض يجتمع بالمبعوث الدولي في الأمم المتحدة، وأمس انتقل الاجتماع إلى فندقهم. تحوَّلت المفاوضات إلى مداولات بين الفندقين، بعدما كان مخططاً لها أن تكون في صالتين داخل قصر الأمم المتحدة.

بهذه الطريقة، استطاع وفد صنعاء فرض إيقاع التفاوض الذي أراده. منذ البداية رفض بشكل قطعي صيغة الوفدين، معتبراً أنَّ ذلك يكرِّس وجود سلطة لا يعترف بها. لذلك واصل اجتماعاته مع المبعوث الدولي بفريق يمثل المكونات السياسية اليمنية، تماماً كما أراد، مع نحو عشرين ممثلاً عن الأحزاب السياسية المتحالفة ضدَّ الحرب السعودية. وفد الرياض اضطّر للبقاء. انصاع لضغوط مختلفة، بعدما كان يعوّل على جلسات بين طرفين في الأمم المتحدة، تكرّس اعتباره ممثلا لـ «السلطة الشرعية»، فيما يتخوَّف من سيناريو التحوّل إلى حوار الفنادق الذي لا يمكنه تكريس أوزان سياسية.

تلك الجدالات صارت من الماضي، والقضية الآن واحدة: إنَّها مضمون «الهدنة الشاملة» التي يجري التفاوض حولها. في هذا السياق، يقول أحد أعضاء وفد صنعاء ناقلاً لـ «السفير» أجواء الاجتماع بالمبعوث الدولي: «قدَّمنا له رؤية شاملة، إنَّها خطة تتضمَّن آليات تنفيذ الهدنة»، قبل أن يضيف: «اقترحنا كيف سيتمّ البدء بسحب القوات من المدن، وكيف سيتم ملء الفراغ الأمني مبدئياً». المسؤول الحزبي الرفيع المستوى أكَّد أيضاً أنَّ وفد صنعاء اقترح «تشكيل لجنة عسكرية وأمنية، تتولى تحديد آليات الانسحاب وجداوله الزمنية، لكن بالتزامن مع إطلاق عملية سياسية لإنتاج سلطة شرعية تملأ الفراغ السياسي». هناك حلول قدَّموها لكل مشكلة يمكن أن تنتج، كما يقول: «الاتفاق على سلطة تقود مؤسسات الدولة وينهي الخلاف أيضاً بشأن القضايا الأمنية لأن مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية ستتولى المسؤولية» في المناطق التي سيجري الانسحاب منها.

التداول حول تفاصيل الهدنة الشاملة، هو قضية أكَّدها أيضاً مصدر واسع الاطلاع في جماعة «أنصار الله». قال إنَّ هناك فعلاً ما يسوغ التفاؤل، كاشفا لـ «السفير» أنَّه «إذا جرت الأمور بشكل إيجابي، يمكن أن يتم الإعلان عن الهدنة في أيّ لحظة، وربما يكون يوم الجمعة». المصدر شرح أنَّ الرؤية التي قدمتها «أنصار الله» للمبعوث الدولي، مبنيَّة على «أن يجري الإعلان عن الهدنة أولاً، وبعد أن يتم التأكد من صلابتها، تبدأ عمليات الانسحاب من بعض المواقع»، مشدداً على أنَّ «الجيش هو من يجب أن يملأ الفراغ الأمني في المرحلة الأولى».

في السياق ذاته، جوهر هذه الرؤية يؤكِّده أيضاً عضو وفد صنعاء علي العماد، وهو أحد أعضاء المكتب السياسي في «أنصار الله». يقول، خلال حديث مع «السفير»، إنَّ «هناك مؤشِّرات إيجابيَّة بأن تكون الهدنة ملموسة على أرض الواقع». وشدّد، مستعرضاً الصورة الإجمالية لمسار الحل، على أنَّه «يجب أن يبدأ ضمن رؤية شاملة، فعلينا أن نفكر في المسار السياسي الذي يفضي إلى الانتقال لبناء مؤسسات الدولة»، موضحاً أنَّه «من ثم نستطيع أن نؤكّد أنَّ مسألة الانسحاب من المدن، أو ربما وقف الصراعات بشكل فعلي، سيكون على أساس أن تكون مؤسسات الدولة هي البديل الطبيعي والشرعي».

طبعاً ما يحصل في جنيف يستمر في كونه «انعكاسات إيجابيَّة»، لمسار تفاوضي بدأ في العاصمة العُمانية ولا يزال مستمراً. هناك يقوم فريق تواصل عُماني بإدارة عملية تفاوض غير مباشر بين الرياض و «أنصار الله»، التي تتواجد قيادات منها هناك لهذا الغرض بالذات.

على كل حال، مجمل هذا الحراك جعل ممثل الامم المتحدة يغادر حذره الشديد، ويتحدث عن «تقدّم» وعن أجواء من «التفاؤل». صار لديه في الأفق ما يمكن أن يقدمه كإنجاز شخصي. لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن آلة العمل كانت مستمرة كالتالي: المطبخ في مسقط، حيث يتم إنجاز التفاهمات المؤسِّسة، وهذه ترسل إلى جنيف كيف تقدّم كمبادرة سلام من الأمم المتحدة.

برغم الانتقادات من كلا الطرفين، إلا أنَّ المبعوث الدولي عمل على إفهام الجميع أنَّه مدرك لأصول اللعبة ولا أوهام لديه. لم يرد أن يظهر بزي المهرّج، ويتحدث عن طروحات وفد الرياض. كان يردِّد بلسانه طوال الوقت أن «الرياض تقبل، الرياض ترفض».

خلال المداولات الأولية السابقة، كان ولد الشيخ أحمد يقترح على وفد صنعاء أن «تتولى المجالس المحلية مسؤولية الأمن في المناطق التي يجري الانسحاب منها»، كما يقول مسؤول حزبي في الوفد. لكن المبعوث الدولي سمع اعتراضاً جذرياً على ذلك: «قلنا له إنَّ هذا يعني أن نسلّم تلك المناطق لحكومة الرياض وهذا مرفوض». في الأساس يسخر أعضاء الوفد من هذه الفكرة. يقولون إن من في الرياض هم «فتات» حكومة مستقيلة «هناك خمسة وزراء فقط في السعودية، والباقون لا يزالون مستقيلين، لكن في اليمن».

الاتفاق الشامل محط التداول يناقش أيضاً قضية ملء الفراغ السياسي. هناك مسار وحيد لذلك، برأي من تقدم بالمبادرة، وهو إكمال العملية السياسية على أساس تمثيل جميع المكونات. يقول مسؤول ناقش ذلك: «لدينا كل الآليات اللازمة لتقاسم السلطة، وهي نتيجة مسار طويل جرى برعاية (المبعوث الأممي السابق) جمال بن عمر».

وسط هذه الأجواء، هناك من أراد أن يصنع الحدث. اللافت أنَّ تكرار سيناريو حذاء «منظر الزيدي»، كان يدور في رأس كلا الطرفين. كان أحد الإعلاميين القادمين من صنعاء يترقّب غير حاسم أمره. كان يفكر بصوت عالٍ، أمس الأول، بأن يستهدف بحذائه رئيس وفد الرياض الذي جاء ليلغي مؤتمره داخل قصر الأمم المتحدة. لم يفعل الشاب ذلك. للمصادفة، في اليوم ذاته، كانت إعلامية معارضة للحوثيين حسمت أمرها بتنفيذ خطة مطابقة. في دعوة رمزية، قالت لأحد الصحافيين بأنَّه يمكن أن يلتقيها في فندق وفد صنعاء، لأنَّها ستعطيه هناك سبقاً صحافياً. لم تستطع تنفيذ خطتها. انتظرت حتى يوم أمس، في موقع أفضل بكثير هو نادي الصحافة السويسري. هناك استهدفت حمزة الحوثي، عضو الوفد، بمؤازرة من بعض رفاقها، تحت وابل من الشتائم والصراخ والاتهامات.

دارت شجارات أخرى، لكن ذلك لم يعكِّر أجواء التفاؤل التي كانت سائدة أمس في بهو فندق «كراون بلازا»، حيث يقيم وفد صنعاء. طبعاً كانت هناك عراقيل لا فرار منها. بعض أعضاء الوفد كانوا يريدون الانتقال إلى غرفه لأخذ قسط من الراحة قبل معاودة اللقاء مع المبعوث الدولي، لكن البطاقات التي تشغل المصاعد لم تكن تعمل. ظنّوا بداية أن المشكلة فردية، فقاموا باستعارة بطاقات زملائهم، ليكتشفوا أنَّ هناك وحدة مصير أمام صعودهم. كان يفترض أن يغادروا اليوم، لذلك قام مكتب الاستقبال بإعطائهم التشخيص السريع: «جميع البطاقات في حاجة لإعادة تشغيل، لأننا مددنا إقامة كل أعضاء الوفد». الإقامة مستمرة، والجميع يترقَّب. الأمل هنا أن يخرج إعلان هام من الأمم المتحدة، يؤذن ببداية صعود اليمنيين من قعر هذه الحرب المدمرة.

 

(وسيم إبراهيم / السفير)

آخر الأخبار