خاص | "أكيلي لاورو".. النسخة اليمنية

أحمد فؤاد - كاتب عربي مصري | في السنوات الأولى لحكم الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك قررت الولايات المتحدة أن ترسل أهم رسالة لها، خلال وجودها الطويل بالشرق الأوسط، رسالة قاطعة في دلالتها لكل دولة تعتقد –واهمة- إنها تتعاون مع واشنطون، وأن لها مساحة ما للحركة، خارج إطار الإملاءات والشروط الأميركية.
الحادثة الفارقة، والتي للأسف لا تجد الاهتمام أو الاستحضار، وتغيب عنها أضواء لازمة، كشفت ما ترسمه واشنطن للمنطقة، ومدى ما تسمح به لعملائها ومندوبيها في قصور الحكم، هي حادثة "إكيلي لاورو"، وباختصار غير مخل، فإن مجموعة من الفلسطينيين اختطفوا سفينة إيطالية بنفس الاسم، في 1985، ونتيجة لقلة عددهم لجأوا للذهاب لميناء مصري عوضًا عن خطتهم الأصلية بالذهاب لميناء فلسطيني والقيام بهجوم ضخم ومفاجئ، ومن ثم تم الاتفاق على إنهاء العملية، وحملهم بطائرة مصرية إلى تونس، وقتها فقط تدخلت أميركا، واختطفت الطائرة المصرية إلى إحدى قواعدها بإيطاليا، وقُدم الفدائيين إلى محكمة إيطالية، بعد رفض روما تركهم وهم في أراضيها، فيما ابتلع نظام المخلوع مبارك الإهانة الأميركية، التي تحولت لفضيحة، وفهم حدود العلاقة الجديدة كما تراها واشنطون وتريدها، وكان أخلص تابعيها في المنطقة، طوال أعوامه الثلاثين في قصر الحكم.
قرأ "مبارك" الرسالة، كما فهم غيره من المستبدين العرب، أنه لا دور مسموح خارج حدود معينة، سوى بأمر أميركي مباشر، والأهم، لا دور حتى داخل بلده إلا برضا وضوء أخضر واضح، ففقدت الدول العربية التابعة للسيد الأميركي سيادتها تمامًا، وباتت تلك الأنظمة تمارس السلطة، بالقمع أحيانًا، وبالمؤامات السياسية في أحيان أخرى، إذ لا يترك الاعتصار الأميركي لهم قدرة دائمة على الفعل، حتى الفعل الأمني اللازم للتثبيت والحماية.
وكما فهم الأتباع رسالة واشنطن، فإنه وبعد 34 عامًا كاملة، فهمها محور المقاومة، محور الشرف ورفض الخنوع، فواجهت اليمن الحرب العدوانية الأميركية، بأيدي فاعلين محليين هم النظام السعودي والكيان الصهيوني، ومن اتبعهما طمعًا في العطايا وقيامًا بحق شريان الريالات الممتد لعواصم عربية كثيرة، ولخمس سنوات كاملة عجزت آلة الحرب الأميركية أمام بسالة الأجساد اليمنية الهزيلة، ورسم "أنصار الله"، ومعهم الجيش والشعب، طريقًا جديدًا لكل شعب عربي راغب في استرداد قراره من البيت الأبيض.
واجهت اليمن، بإصرار وتحد كبيرين، الصلف والاستكبار الأميركي بالعناد القادر على دفع أثمان الانعتاق والخروج من أسر التبعية، وفهمت أن الولايات المتحدة في طور تخبط ومراهقة غير مسبوق، مع زيادة وتنامي قدرات محور المقاومة وروسيا والصين، واعتمدت إستراتيجية عسكرية مبهرة، عنوانها الاعتماد على الذات ومناسبة السلاح لمراحل النزاع، وتمكنت أخيرًا من انتزاع تسليم سعودي غير مشروط بوقف العدوان.
الصورة الوحيدة الواضحة الآن، والتي لا تباريها صورة، هو أن شبه الجزيرة العربية شهد مولد "فاعل" جديد، ولد كبيرًا قادرًا من رحم المعاناة والحرب والبارود.
اليمن، وفي ظل انقشاع دخان القصف والتدمير، تحوّل فجأة إلى الرقم الأصعب في الجزيرة العربية، بقدرات عسكرية هائلة، ومحلية، لا تخضع لحسابات، ولا هي مهددة بامتناع صانع عن بيعها، ومع انضواء أكيد تحت راية محور المقاومة، بطبيعة الصراع في المنطقة وعليها، فإنها خارجة لدور لها، إقليمي مؤكد، وربما أكثر من ذلك في مستقبل الأيام القريب.
الناظر بتمعن لخريطة الجزيرة العربية، يصطدم بفراغ هائل، سكاني وحضاري، فالبني الموجودة بالمنطقة كلها من زجاج، كما وصفها صادقًا السيد عبدالملك الحوثي، والأهم فراغ سكاني خطير، يجعل كل دولها –المصنوعة صنعًا- كهشيم أمام أي ريح قادمة، وليس درس صدام الذي قفز فجأة على الكويت، ولم تكن نيته ومطامعه تقف عند حدود الإمارة الصغيرة، وفقط.
لا يحتاج اليمن اليوم لأكثر من فرصة هدوء، يستعيد بها نظامه وإمكانياته، ويسرع في طريق مفتوح نحو المستقبل، يعززه دخول صيني للشرق الأوسط باستثمارات هائلة، وغير مسبوقة، عبر طريق الحرير، واليمن كانت قديمًا واحدة من أهم المحطات البحرية، وهمزة الاتصال من آسيا إلى إفريقيا.
وبوزن سكاني يوازي كل مجموع سكان دول الخليج الست، وربما يزيد، ثم بنظام جمهوري راسخ، وبآليات جديدة لإدارة شؤون الدولة، تمكنت من عبور الحصار والقصف وحرب التجويع بكفاءة نادرة، فإن القدرة اليمنية لا شك واصلة إلى مفتتح عصرها الجديد.
الطرف الأكثر اهتمامًا وتحركًا في المقابل، كان الكيان الصهيوني، فبدأ منذ انطلاق الحرب العدوانية في توثيق الصلات مع الأنظمة الخليجية، والمسارعة على الطرق المفتوحة من تل أبيب إلى الرياض وأبوظبي والمنامة، ومسقط، مستغلًا الفشل السعودي المروع في إدارة ملف الصراع أولًا، والحرب ثانيًا.
تحرك الكيان يستبق كارثة وجودية، فاتصال اليمن مع طريق بات مفتوحًا من طهران إلى بيروت، يعني ببساطة صفحة النظم العميلة في شبه الجزيرة العربية بالكامل، تشكيل عالم جديد في الشرق الأوسط، يبتلع الكيان الصهيوني تمامًا، ويجعل من استمراره وسط شعوب حرة تمتلك قرارها وحررت إرادتها ضربًا من الخبل المميت.

 

خاص | راصد اليمن

آخر الأخبار